الفيلسوف الفارسى الكبير
مقدمة
باسم الله تعالى وله الحمد.
في فجر القرن الحادي عشر ظهر في فارس من مدينة شيراز رجل فارسي المحتد حقيق ان يعد من اعظم الفلاسفة الاثولوجيين الذين نظروافي ملكوت السماوات والارض، وكانوا من الموقنين ، وهو صدرالدين محمد بن ابراهيم الشيرازي، وكان ظهور هذا الفيلسوف الالهي الكبير الذيسناتي على صورة جلية من حياته وشخصيته وفلسفته في عصر كان نجمالفلسفة ضئيل النور لا ناصر لها الا فئة قليلة ممن اختارهم الله لنصر العلم،وكان رجال الفكر يستترون وراء ستار التقية حقنا لدمائهم، وكانت صولةاهل الجمود شديدة قوية، وقلم الفقهاء وخصوم الفلسفة امضى من السيف،ولو لم يكن لمذهب التصوف بصيص نور وانصار قليلون من الذيناستنارت قلوبهم بنور العقل لكان هذا الفيلسوف الالهي صريع جهل اهلعصره، وقتيل عصبيتهم، ولكان جزاؤه على علمه جزاء شهاب الدين السهروردي – القتيل الشهيد – على فكره .
هيا الشرق في كل عصر للعالم رجالا كبارا وحكماء عظماء منهم منملات البسيطة شهرته، ومنهم من مات مجهولا في زاوية غربته، وممن لميعرفوا حق المعرفة هذا الفيلسوف الرباني الجليل الذي لا شك انه منحسنات القرن الحادي عشر، بحق ان يعد من فطاحل الحكماء امثالابن سينا و ابن مسكويه و نصيرالدين الطوسي الفلكي والامام الغزالي منالفرس، و ابن رشد و ابن باجة و محييالدين ابن عربي من العرب، وامثالسقراط و افلاطون و ارسطو وامثال سبينوزا (1) ( Spinoza ) و مالبرانش (2) ( Malebranche ) من رجال الغرب .
اخترت للاطروحة وصف حياة هذا الفيلسوف وشخصيته واهمفصول فلسفته لاسباب:
الاول ا نه خدم اللغة العربية اعظم خدمة، اذ اخرج كنزا عظيما مندررالحكمة ولآلئ العلم من فلسفة اللاهوت والاخلاق والتصوفوالحديثبلغة الضاد، ووضع كتبا تبلغ اربعة واربعين او خمسة واربعينكتابا ورسالة بتلك اللغة (3) ، وهذا مما زادت به ثروة العلم، فهذه الخدمةاحرى ان تقدر، ولا سيما من علماء العرب ورجال الادب في الشرقوالغرب كافة .
الثاني: ان روح فلسفته وان غشاها حينا بالفاظ معماة – ولا تظهر الاللمتضلع من فلسفته واصطلاحه – ترفع الخلاف في كثير من المسائل التيطالما احتدم الجدال فيها بين الفلسفتين الروحية والمادية ، وان شئت قل: انها ترفع الخلاف بين عدة مسائل كان الخلاف فيها بين الفلسفتين جوهرياكالخلاف بين مذهبي ازلية المادة – العالم المادي – وحدوثها، ووجود القوةالمبعدة الخالقة المعبر عنها ( بالله )، واثبات الشعور العام المعبر عنه بالعلمله، ووجود الحكمة والغاية من الخلق في جميع اجزاء الكون وعدمها.
وهذه المسائل بحثتها في درس مذهبه الفلسفي، ثم اردفت البحث فيهذه المسائل براي هذا الفيلسوف في اثبات الشعور لذرات المادة المعبرعنها في اصطلاح الفلسفة الاغريقية بالهيولى من جماد ونبات، كراي العالمالنباتي الهندي ( جاجاديس بوز ) . (4) .
ثم جعلت مسك الختام كلمة صدرالدين في العشق، وفيها اعترافمنه بفضل الدمشقيين ودمشق .
الثالث: ان اوجه انظار اهل العلم من الشرقيين والغربيين الى افكارهالنيرة وآرائه وفلسفته الروحية، والى كتبه النفيسة التي هي مرآة افكارهوافكار عظماء الفلاسفة كسقراط وافلاطون وارسطو وغيرهم من فلاسفةالاغريق والفرس والروم واتباعهم كابن سينا والفارابي وامثالهما .
ولا انتشار لكتبه القيمة الا عند الخواص من العرب والفرس ، على انقدره لم يخف على بعض علماء اوربا وكتابها فان العالم كونت دوغوبينو( Comte de Gobineau ) السفير الفرنسي الذي اقام من سنة( 1271ه . الى 1274 ه .) في طهران كتب في كتابه « المذاهب والفلسفةفي آسيا الوسطى »( lazie CentraleLes Religions Etles philosophies dans ) فصولا عنه لا تتجاوز بضع صحائف .
وورد ايضا ذكره مختصرا بقلم المستشرق كليمان هوار في معلمةالاسلام التي تنشرها جماعة من المستشرقين ، ولكن الاول منها – وفقالموضوع كتابه – بحث عن ناحية اثره في الفلسفة وتاثير فلسفته في اهلعصره ، والثاني اعتمد على ما كتبه الكونت دوغوبينو في كتابه المذكور،وعلى مصادر فارسية وقفنا عليها جميعها .
شيراز وطن صدر الدين
وهي من مدن ايران الجنوبية واقعة على بعد 29 درجة و 27 دقيقة منالعرض الشمالي، و 52 درجة و 40 دقيقة من الطول الشرقي من كرينجلندن، و 60 كيلو مترا من اتلال (5) استخر الذي يسميه الافرنجبرس بليس،ويسمى ايضا تخت جمشيد، اي ( عرش جمشيد ) وفيه آثار جميلةوصور بديعة هي آيات خالدة تدل على عظمة القدماء، واحرقالاسكندر هذا البناء الجميل، العجيب الصنع، الشهير باعتدال هوائه،وصفاء مائه العذب، وجمال رياضه الفتان، وبهاء حقوله، تجلت فيهالطبيعة بباهر ذلك الجمال الذي حرك اوتار سعدي الشاعر الفارسي الطائرالصيت، فقال:
خوشا تفرج نوروز خاصه در شيراز
كه بر كند دل مرد مسافر از وطنش
عزيز مصر چمن شد جماليوسف گل
صبا چو در چمن او ربودى پيرهنش
اي حبذا التفرج في نيروز (6) ، ولا سيما في شيراز التي تنسي الغريبوطنه، والمرج او الروض اصبح كعزيز مصر، والورد كجمال يوسف حيناتى الصبا اليه بشذا قميصه، وهذا وصف جميل بديع لهذا البلد الطيب،واهله اذكياء المشاعر متلهبو الذكاء امتازوا بصفاء الروح، وجمال الصورتتدفق في خواطر كثير منهم بالشعر، مشهورون بالميل الى اللهو والترف .
بنى هذه المدينة اولا شيراز بن تهمورث، ثم جدد بناءها بعد الخرابمحمد بن القاسم ابن عم الحجاج في صدر الاسلام، وكانت معسكراللمسلمين لما هموا بفتح استخر ( اصطخر )، وكانت عاصمة آل بويهوغيرهم من الملوك، وعاصمة كريم خان الزند . وقد انجبت غير واحد منرجال العلم المشهورين من الفلاسفة الكبار والشعراء العظماء كالامامابي اسحاق الشيرازي المتوفى سنة 476 ه ، والعلامة قطبالدين محمودبنمسعود تلميذ نصيرالدين الطوسي الفلكي، وصاحب الاختيارات فيالهيئة وحل مشكلات المجسطي المتوفى سنة 710 ه ، ومصلحالدينسعدي الشاعر العارف الشهير المتوفى سنة 691 ه ، و شمس الدين حافظ محمد العارف الشاعر المتوفى سنة 791 ه . او 794ه ، وغيرهم ممن تفتخربهم فارس .
في هذه المدينة الجميلة ولد صدرالدين، واصبح قبسا منيرا في سماءالعلم بعد حين، وفيها نمت عواطفه، واتقدت فطنته، والتهب ذكاؤه، كذلكالتربة الخصبة تنبت الزنبقة .
اسرته
هو صدرالدين محمد بن ابراهيم القوامي الشيرازي الشهير بالآخوندالاستاذ المولى صدرا .
اسرة قوام في شيراز اسرة عريقة في النسب والشرف، والقوام لقبعام لرئيس هذه الاسرة في كل عصر، ولا تزال الرئاسة قائمة فيهم الى هذاالزمن .
وراس هذه الاسرة هو القوام الذي كان معاصرا لحافظ شمس الدينالشاعر السابق الذكر، واثنى عليه في بعض قصائده بقوله:
درياى اخضر وفلك و كشتى و هلال.
هستند غرق نعمت وحاجى قوام ما.
معنى البيت: ان نعمة قوام عمت البر والبحر، بل الفلك والفلك والهلالشملتها نعمته، وهو مبالغة شعرية في مدحه .
وشك بعضكبار علماءشيراز في نسبة صدرالدين الى هذهالاسرة،وقال على مارواه الثقات عنه:ان قوامالذي ينسب اليه صدرالدين غير قوامالمعاصر لحافظ شمسالدين،ولكناشتهرت نسبتهالى هذهالاسرة الشريفة.
ولادته
ولد هذا الحبر الجليل بعد النصف من القرن العاشر الهجري علىالارجح من اب شيرازي اسمه ابراهيم، وكان وزيرا في فارس ( شيراز )،ولم تعرف سنة ولادته في الكتب التي ورد ذكره فيها، الا ان الارجح ا نهولد بعد النصف من القرن العاشر الهجري; لان اعماله الخطيرة العلمية،ووضع تآليفه الكبيرة التي تربو على اربعة واربعين او خمسة واربعينتاليفا وتصنيفا، ومدة اشتغاله بدرس الفلسفة والحديث والفقه والتصوف،واعتزاله في جبال ( قم ) عدة سنين تاركا التاليف والتصنيف كما سيشيراليه في كلامه الآتي ذكره، كل ذلك يحتاج الى زمن اكثر من خمسين سنة،اي الخمسين سنة بعد القرن العاشر التي وقع فيها موته اذا قلنا انه ولد فيفجر القرن الحادي عشر .
ولما لم يولد لابيه الوزير ولد في مدة طويلة طلب الى الله حثيثا انيرزقه صبيا فرزقه ( صدرا ) بعد ان دعا ادعية طويلة ، وفي ايام عديدةوبعد ان تصدق على المحتاجين والمقترين ، ولا سيما بعد ان تصدق بثلاثةتوامين (7) فوزعها على اناس فقراء مارين ولم يكن له غيرها، ومنذ طفولتهلقب الولد ( صدرا ) لفضله الكبير، واختار له مهذبا حاذقا، وما عتم انظهرت عليه امارات الذكاء .
وكان والده ذات يوم وكله على البيت وعلى رعاية ما فيه، ثم ارادالوقوف على ما انفقه في المدة المذكورة، فراى ان بين النفقات اليوميةثلاثة توامين في باب الحسنات، فتعجب والده الوزير من هذا الامر، وقاللابنه: ما هذا؟ قال ابنه: يا ابي هذا ثمن ما يكلفك اياه ولدك، وفي صنعه هذادلالة على جوده، وان فطرته كانت تهتز للمعروف .
وروده الى اصبهان
ولما ذهب من شيراز الى اصبهان تعرف في حمام من حماماتالمدينة الى السيد ابي القاسم الفندرسكي (8) ، وكان السيد في عهده من اكابرالعلماء في علوم ماوراء الطبيعة، ولم يكن السيد يعرفه لكن لما سلم عليهقال له السيد: لا شك في ا نك غريب عن البلدة يا ولدي؟ قال الصدر: نعم،قال: له ومن اي بيت انت، ومن اي مدينة، ولاي سبب قدمت الى اصبهان ؟فقال: اني من فارس وقدمت الى هنا لاتمم دروسي، قال السيد على اي العلماء تريد ان تقرا؟ قال: على من تختاره لي ، قال السيد: اذا اردت انتوسع عقلك فعليك بالشيخ بهاءالدين، اما اذا اردت ان ينفتق لسانكفعليك بمير محمدباقر، فقال: اني لا اعني بلساني، فذهب الى الشيخبهاءالدين فاخذ يتلقى العلم عنه من فلسفة وكلام، وكان طموحا الى انيعرف افكار اليونانيين وما دونوه في كتبهم; ولذلك كان يصرف كل دراهمهفي مشترى الكتب الفلسفية، فاجاد في كل ما سمعه عن استاذه حتى انمعلمه قال له ذات يوم: تلقيت جل علومي واعرفه بمير محمدباقر الدامادفقال له: اذهب اليه واتني منه بكتاب، وكان ذلك وسيلة لتعرفه اليه .
ولم يدر في خلد الصدر ان وراء الاكمة ماوراءها، فواجه الاستاذالمنطقي من غير ان يخامره ريب، وفي ذلك الوقت كان مير محمدباقر يعلمفسمع الصدر درسه ، ولما عاد التلميذ الى استاذه قال له شيخه: ما كانيفعل مير محمدباقر؟ قال: كان يدرس، فقال شيخه: اني لم اكن محتاجا الىطلب كتاب من مير محمدباقر انما اتخذت هذه الوسيلة لكي اعرفكبدروسه وتحكم بنفسك على مقدرة علمه، فينبغي ان تتلقى علومه،فاطاعه الصدر، وفي بضع سنوات بلغ الدرجة القصوى من البلاغة وهيالدرجة التي عرف بها .
آراء الفقهاء في اعتقاد صدرالدين
وهذا الفيلسوف كامثاله من الفلاسفة الاحرار ذوي الافكار النيرةلميسلم من الانتقاد المر والتحقير، واصبح هدفا لسهام اللوم والتكفير،وهناك بعض الاقاويل في شانه من مقاربي عصره ومعاصريه .
قال السيد نعمة[الله] التستري (9) :
« لما وردت شيراز لم اتكل الا على ولد صدرالدين الشيرازي واسمه ميرزا ابراهيم، وكان جامعا للعلوم العقلية والنقلية فاخذت عنه شطرا من الحكمة والكلام، وقرات عليه حاشيته على حاشية شمس الدين الخفري على شرح التجريد، وكان اعتقاده في الاصولخيرا من اعتقاد ابيه، وكان يتمدح ويقول: اعتقادي في اصول الدينكاعتقاد العوام، وقد اصاب في هذا التشبيه » .
وقال الشيخ يوسف البحراني (10) :
« ولصدرالدين ابن فاضل اسمه ميرزا ابراهيم، وكان فاضلا متكلماجليلا نبيلا عالما لاكثر العلوم، ولا سيما في العقليات والرياضيات.قال بعض اصحابنا بعد الثناء عليه: هو في الحقيقة مصداق قولهتعالى: « يخرج الحي من الميت » قد قرا على جماعة منهم والدهولميسلك مسلكه، وكان على ضد طريقة والده في التصوفوالحكمة » . (11) .
وقال صاحب روضات الجنات (12) :
«( وكانه سلك الطريقة الوسطى ) ويوجد في غير واحد من مصنفاته- اي مصنفات صدرالدين – كلمات لا تلائم ظاهر الشريعة، كا نهامبنية على اصطلاحاته الخاصة، او محمولة على ما لا يوجب الكفر،وفساد اعتقاد له بوجه من الوجوه وان اوجب ذلك سوء ظن جماعةمن الفقهاء الاعلام به وبكتبه، بل افتى طائفة منهم بكفره ». (13) .
فمنهم من ذكر في وصف شرحه على الاصول ( اصول الكافي ) (14) شروح الكافي كثيرة جليلة قدرا، واول من شرحه بالكفر ( صدرا ) وقالالشيخ يوسف البحراني السابق الذكر في شان تلميذه المحسن الفيضالآتي ذكره:
« له من المقالات على مذهب الصوفية والفلاسفة ما يكاد يوجبالكفر والعياذ بالله مثلما يدل في كلامه على القول بوحدة الوجود،وقد وقفتبه على مقالة قبيحة صريحة في القول بوحدة الوجود قدجرى فيها على عقائد ابن عربي، واكثر فيها من النقل عنه ان عبرعنه ببعض العارفين، وقد اوردنا جملة من كلامه في تلك المقالةوغيرها في رسالتنا (15) في الرد على مقالته نعوذ بالله من طغيان الافهاموزلل الاقدام، وقد تلمذ في الاصول – اي اصول العقائد – للمولىصدرالدين الشيرازي، ولذا كانت كتبه الاصولية على قواعدالصوفية والفلاسفة، بل كان في عصره هدفا لسهام لوم اكثر عارفيهمن اهل الجمود ايضا على انا نجد قليلا من معاصريه ومقاربيعصره الذين لم يعشوا عن نور الحق يعظمونه ويبجلونه حق تعظيمهوتبجيله » . (16) .
قال السيد علي خان صاحب سلافة العصر في ضمن ترجمةالملافرجالله التستري المعاصر له ما نصه:
« قال مؤلف الكتاب ( عفا الله عنه ): اعيان العجم وافاضلهم من اهلهذه المائة كثيرو العدد، ومنهم المولى صدرالدين محمد بن ابراهيمالشيرازي الشهير بالملاصدرا، كان اعلم اهل زمانه بالحكمة، متفننابسائر الفنون ، له تصانيف كثيرة عظمية الشان في الحكمةوغيرها » . (17) .
وقال صاحب امل الآمل:
« محمد بن ابراهيم الشيرازي فاضل من فضلاء المعاصرين ». (18) .
ثم نقل نص عبارة صاحب السلافة الآنفة الذكر .
وقال الشيخ يوسف البحراني:
« محمد بن ابراهيم صدرالدين الشيرازي الشهير بالمولى صدرا كانحكيما فيلسوفا صوفيا بحتا » . (19) .
وقال صاحب روضات الجنات من المتاخرين:
« صدرالدين محمد بن ابراهيم الشيرازي الشهير بالمولى صدرا كانفائقا على سائر من تقدمه من الحكماء الباذخين والعلماء الراسخينالى زمن نصير الدين، يعني نصير الدين الطوسي الفلكي الفيلسوفالمتوفى سنة 606 ه ». (20) .
ان من درس هذه الكلمات يعلم ان السير على آثار الآباء، والتقليد فيالعقائد الدينية، وترك الاهتداء بنور العقل والفلسفة كانت في ذلك العصر اوصافاتعد فضيلة لصاحبها، وفيها حياة له، كما ان، في الفلسفة موتا للفيلسوف .
نقل مؤلف كتاب قصص العلماء (21) :
«ان ملامحراب علي الاصبهاني – احد العرفاء الصوفيين المعاصرينلابيه الشيخ سليمان – وجد يوما الملا محمد كاظم الهزارجريبي عندقبر الحسين(ع) في كربلاء اخذ بعد صلاة الصبح يلعن كبار العرفاءالصوفيين واحدا بعد واحد حتى لعن المولى صدرا مائة مرة، ثم لعنالملا محراب علي، فسال الملا محراب علي – وهو لايعرفالملامحراب علي – عن سبب لعنه له قال: انه يعتقد بوحدة واجبالوجود، فقال له: فالعنه فانه حقيق بلعنك بهذه العقيدة، ولم يكنيميز بين الاعتقاد بوحدة الوجود، ووحدة واجب الوجود». (22) .
وفاته
اتفق الشيخ يوسف البحراني وصاحبا امل الآمل (23) وروضات الجنات على انه توفي في ضمن العشر الخامس من المائة الحادية عشرة ،وخالفهم محمد حسن خان – صنيع الدولة – مؤلف كتاب « منتظمناصري (24) » الذي وضعه في وقائع السنين في الشرق والغرب، وسميالكتاب باسم الشاه ناصر الدين القاجاري، قال في صفحة 196 ، من كتابه:« ان صدرالدين توفي في سنة 1059 ه . – 1649م . وحدثت وفاته فيالبصرة حين توجهه الى مكة » .
كلماته وشكواه من اهل عصره
يظهر من بعض كلماته ا نه سئم جهلة اهل عصره، يقول في ديباجةكتابه « الشواهد الربوبية » بعد الحمد واصلي على نبيه وآله المطهرين – منظلمات الخواطر المضلة – المحفوظين في سماء قدسهم وعصمتهم ، عنطعن اوهام الجهلة، واستعيذ به من جنود الشياطين ، ثم قال: « اللهم اجعل قبور هذه الاسرار صدور الاحرار » (25) وقال في فاتحة كتابه « الاسفار » بعدبيان عزمه على تصنيفه:
« ولكن العوائق كانت تمنع عن المراد، وعوادي الايام تضرب دونبلوغ الغرض بالاسداد، فاقعدتني الايام عن القيام، وحجبني الدهرعن الاتصال الى المرام لما رايت من معاداة الدهر بتربية الجهلةالارذال، وشعشعة نيران الجهالة والضلال، ورثاثة الحال، وركاكةالرجال، وقد ابتلينا بجماعة غاربي الفهم تعمش عيونهم عن انوارالحكمة واسرارها ، تكل بصائرهم – كابصار الخفافيش – عن اضواءالمعرفة وآثارها، يرون التعمق في الامور الربانية والتدبر في الآياتالسبحانية بدعة، ومخالفة اوضاع جماهير الخلق من الهمج الرعاعضلالة وخدعة . . . » .
الى ان قال:
« فاصبح الجهل باهر الرايات، ظاهر الآيات، فاعدموا العلم وفضله،واسترذلوا العرفان واهله، وانصرفوا عن الحكمة زاهدين، ومنعوهامعاندين، ينفرون الطباع عن الحكماء، ويطرحون العلماء العرفاءوالاصفياء، وكل من كان في بحر الجهل والحمق اولج وعن ضياءالمعقول والمنقول اسرج كان الى اوج القبول والاقبال اوصل ، وعندارباب الزمان اعلم وافضل:
كم عالم لم يلجبالقرع باب منى.
وجاهل قبل قرع الباب قد ولجا.
وكيف ورؤساؤهم قوم اعزل من سلاح الفضل والسداد ، عاريةمناكبهم عن لباس العقل والرشاد » (26) .
يشير هذا الكلام الى ان صدرالدين لم يكن يستطيع من التصريح بفلسفتهكما ياتي النص عليه في كلامه في مبحث علم البارئ تعالى، حيثيقولفي رايه في علمه تعالى: انه لايرى في التصريح به مصلحة، وتنبه علىذلك من درس حياة صدرالدين من الافرنج، ففي كتاب « الكنتدو كوبينو » ومعلمة الاسلام الانجليزية: ان صدرالدين اخفى مذهبهمن باب التقية – الكتمان – خوفا من اضطهاد المجتهدين له، وغشاهقصدا بالفاظ معماة، ومقالته ثشكوى من اهل الجمود ومتفقهة عصرهالذين دابهم في كل عصر ومصر محاربة احرار الافكار بسلاح الدين وانكانوا لا يعرفون من الدين الا قشره، وهم ابعد من لبه كبعد السماءوالارض .
اهل الجمود والعوام في نظره
نظر صدرالدين الى اهل الجمود والعوام بالاحتقار، يقول في اول كتابهالاسفار بعد وصف فضل الفلسفة وا نها طريق معرفة الحق الوحيد:« وليعلم ان معرفة الله تعالى وعلم المعاد وعلم طريق الآخرة ليسالمراد بها الاعتقاد الذي تلقاه العامي او الفقيه وراثة وتلقفا، فانالمشغوف بالتقليد والمجحود على الصورة لم ينفتح له طريقالحقائق كما ينفتح للكرام الالهيين » (27) .
ويقول: « اني لاستغفر الله كثيرا مما ضيعتشطرا من عمري في تتبعآراء المتفلسفة والمجادلين من اهل الكلام . . . حتى تبين لي آخرالامر بنور الايمان وتاييد الله المنان ان قياسهم عقيم، وصراطهم غيرمستقيم » .
تاثير معارضة اهل الجمود للفلسفة في نفسه
لما لم يجد اقبالا عليه وعلى الفلسفة من اهل عصره كما يريد سئموخمد خاطره الفياض، وترك التدريس والتاليف مدة من الزمن، يقول فيكتابه الكبير:
« ضربت عن ابناء الزمان صفحا، وطويت عنهم كشحا، فالجانيخمود الفطنة وجمود الطبيعة لمعاداة الزمان، وعدم مساعدة الدورانالى ان انزويت في بعض نواحي الديار [لعله يشير الى هجرته الىبعض جبال قم] (28) واستترت بالخمول والانكسار، منقطع الآمال،منكسر البال، متوفرا على فرض اؤديه، وتفريط في جنب الله اسعىفي تلافيه، لا على درس القيه، او تاليف اتصرف فيه; اذ التصرف فيالعلوم والصناعات، وافادة المباحث ودفع المعضلات، وتبيينالمقاصد ورفع المشكلات مما يحتاج الى تصفية الفكر وتهذيبالخيال عما يوجب الملال والاختلال، واستقامة الاوضاع والاحوالمع فراغ البال، ومن اين يحصل للانسان – مع هذه المكاره التييسمع ويرى من اهل الزمان، ويشاهد مما يكب عليه الناس في هذاالاوان من قلة الانصاف، وكثرة الاعتساف، وخفض الاعاليوالافاضل، ورفع الاداني والاراذل، وظهور الجاهل الشرير، والعاميالنكير على صورة العالم النحرير وهيئة الحبر الخبير، الى غير ذلكمن القبائح والمفاسد الفاشية اللازمة والمتعدية – مجال المخاطبة فيالمقال، وتقرير الجواب عن السؤال فضلا عن حل المعضلاتوتبيين المشكلات ؟» (29) .
از سخن پر در مكن همچون صدف هر گوش را.
قفل گوهر ساز ياقوت زمرد پوش را.
در جواب هر سؤالي حاجت گفتار نيست.
چشم بينا عذر مىخواهد لب خاموش را.
1 – معناه لا تجعل كثيرا كل اذن غير واعية مشحونة كالاصداف بدررالمعاني.
2 – واقفل شفتيك الياقوتتين.
3 – لا حاجة للمقال في جواب كل سؤال.
4 – فان العين البصيرة تعذر الشفة الساكتة للانسان .
ثم اقتبس كلام اميرالمؤمنين علي – عليه السلام – وقال:اقتفيت اثر علي عليه السلام.«مطلقا الدنيا مؤثرا الآخرة على الاولى . . . فامسكت عناني عنالاشتغال بالناس ومخالطتهم، وايست من مرافقتهم ومؤانستهم،وسهلت علي معاداة الدوران ومعاندة ابناء الزمان، وخلصت عنانكارهم واقرارهم، وتساوى عندي اعزازهم واضرارهم، فتوجهتتوجها غريزيا نحو مسبب الاسباب، وتضرعت تضرعا جبليا الىمسهل الامور الصعاب، فلما بقيت على هذه الحال من الاستتاروالانزواء والخمول والاعتزال زمانا مديدا وامدا بعيدا، اشتعلتنفسي لطول المجاهدات اشتعالا نوريا، والتهب قلبي لكثرةالرياضات التهابا قويا، ففاضت عليها انوار الملكوت، وحلتبهاخبايا الجبروت، ولحقتها الاضواء الاحدية وتداركتها الالطافالالهية، فاطلعت على اسرار لم اكن اطلع عليها الى الآن، وانكشفتلي رموز لم تكن منكشفة هذا الانكشاف من البرهان، بل كل ماعلمته من قبل بالبرهان عاينته مع زوائد بالشهود والعيان » (30) .
وانت تعلم ايها القارئ ان هذه الكلمات التي ملؤها الشكوى منالجهل والجاهل وعصر الجهل لا تصدر الا عن نفس رجل بلغ في العلموتزكية النفس مرتبة رفيعة، وحاول ان يستضيء الناس بنبراس علمه،ويسلكوا سبيل الهدى الامثل، ويتبعوا نور شمس العقل الاجمل .
ثم وجد الاقدار تجريعلى خلاف مايرومه فتغر الجاهلوتكرمه،وتذل العالم وتلجمه،وراى من اتبع نورالعقل اصبح هدفا لسهامالجهل،فسئم منالحياة وقطع عنها كل الصلات، ونظر الى العالم نظر المتحير،وطلبالنجاة من اللهالعزيزالقدير، وكانتحاله في تركه وطنه،وانزوائه فيجبال قم، واستظلاله تحت ظلالالسكون، والوحدة للتفكر في ملكوتالسماوات والارض،والتامل في الاسرارالالهية تشبه حال الامام«الغزالي» في تركه بغداد،وتاملاته في القدس والشام،فكلاهما جعلاتهذيب النفس بالرياضة والمجاهدة، وتحليتها بالفضائل،وتخليتها عنالرذائل سبيلهما الموصل الى اللهالجليل،والعارج بهما من مرتبة البرهانالى عالمالشهود والعيان، ذاك عاد بعد سنين الى بغداد فسلك سبيلالارشاد، وهذا نزل من جبال قم وفجر عين خاطره الفياض فصنف وا لفواجاد.
حالة ايران العلمية في العصر الصفوي
يحسن بنا ان نذكر كلمة فيحالة ايران العلمية في العصر الصفويلتتسع بها احاطة القارئ الكريم بنواحي البحث .
ان من جال ديار الفرس ونظر الى مدارسها المبنية في عصر الملوكالصفويين يتمثل امامه سعي هؤلاء الملوك العظماء وامرائهم ورجالهم فينشر العلوم، ولا سيما علوم الدين، فانه يجد في اصفهان كرسي المملكةالصفوية وسائر ديار ايران معاهد علمية، ومدارس فخمة بنيت على الطرزالقديم تلالا قبابها الزرقاء بين اشجار وازهار وبساتين ورياحين،وحجرات الطلاب مطلة عليها، وجدرانها مزينة بالفسيفساء على اجملطرز تسحر العيون كثيرا ما نقشت فيها آيات قرآنية ونصوص دينية،فصورة قطعة من مدرسة الخان في شيراز التي تراها في ضمن هذه الرسالةتمثل لديك جمال البناء في القرنين العاشر والحادي عشر وهندسته فيايران، وكانت عناية هؤلاء الملوك والامراء والذين اتبعوهم باحسان لنشرالعلم سببا لوقف املاك كثيرة من اراض ومزارع وقرى لصرفها في سبيلالعلم ونشره وترقية طلبته .
فبقية تلك الاملاك الموقوفة في العصر الصفوي الآن في ايران يبلغثمنها ملايين من الجنيهات، وكان هؤلاء الملوك ورجالهم بانفسهميتفقدون حال طلبة العلم، ويكرمونهم غاية الاكرام .
وفي كتاب المذاهب والفلسفة في آسيا الوسطى ان ام الشاه عباس الصفوي الكبير على جلالتها مع جماعة من الاميرات الشريفات كن ياتين المدارس في كل شهر مرة ويسالن عن حال الطلاب، ويجمعن ثيابهم ليغسلن اوساخها، ويعطينهم ثيابا جديدة لئلا يشتغلوا بغير الدرس، وهذاالصنع الجميل يدل على كبير اهتمامهم بنشر العلم وترقية شؤون الدين فيهذه المعاهد العلمية .
كان الطالب يتلقى دروسه من الصرف والنحو والمنطق والمعانيوالبيان، وسائر فروع العلوم العربية والادبية والفقه واصوله والحديثوالكلام، والعلوم الرياضية بجميع فروعها والاخلاق وقليل من الفلسفةالاغريقية والحكمة الفهلوية على خفاء; لان الفلسفة كانت تعد مخالفةلمبادئ الدين .
تلقيه علومه وفلسفته
ولما اتم صدر الدين دروسه الاولية في شيراز رحل الى اصبهانحيث كانت مجمع رجال العلم والحكمة، ومقتبس نور العرفان فيايران،وفيها كبار العلماء والحكماء والاساتذة والمدرسين امثال: بهاءالدينالعاملي، والمير محمد باقر الداماد، والمير الفندرسكي الآتي ذكرهم، وكانالطلبة يقصدونهامن الاقطارالفارسية القريبة والنائية لتلقي العلومالعاليةفيها.
اساتذته
لا شك ان نفس مثل صدرالدين الظماى الى رشف كاس العلموالحكمة لا تقنع باساتذة قليلين، فظني قوي ا نه ادرك كثيرا من شيوخالعلم والحكمة والادب في عصره الا ان اساتذته المشهورين هم الشيخالامام الجليل بهاء الدين العاملي، والفيلسوف الالهي المير محمدباقرالحسيني الشهير بالداماد (31) ، وكانا باصبهان، والاول هو العالم الطائر الصيتبهاءالدين محمدبن حسين بن عبدالصمدالعاملي الحارثي الهمداني،ولد فيبعلبك عند غروب الشمس يوم الاربعاء لثلاث بقين من ذي الحجة الحرامسنة953ه . (ثلاث وخمسين وتسعمائة) وصاحب الشاه عباس الصفويوتوفي في 12شوال سنة1030ه . باصبهان، ونقل قبل دفنه الى طوس«خراسان»، ودفن في جوار قبر الامام عليبن موسىالرضا عليهالسلام،وقبره مشهور فيه .
واشهر كتبه: تشريح الافلاك – رسالة نسبة ارتفاع اعظم الجبال الىقطر الارض وخلاصة الحساب – رسالة في بيان ان انوار الكواكبمستفادة من الشمس – رسالة في حل اشكال القمر وعطارد، وتفسيرهالمسمى بالعروة الوثقى .
فوض اليه منصب شيخ الاسلام من الملك الصفوي، وكان هذاالمنصب ذا اهمية كبرى في ذلك العصر .
والثاني هو محمدباقر بن محمد الحسيني فيلسوف الهي جليل، وفقيهنبيل، كان شاعرا يجيد الشعر بالفارسية والعربية، وخطيبا مصقعا خطبخطبة الملك في جامع اصبهان يوم جلس فيه الشاه صفي الصفوي علىعرش الملك، وصاحب للشاه عباس الكبير . توفي سنة 1040 ه . علىراي صاحب منتظم ناصري، وسنة 1041ه . على ما ذكره صاحب املالآمل .
واشهر كتبه: القبسات ، والصراط المستقيم ، والحبل المتين ، وشارعالنجاة في الفقه ، وعيون المسائل لم يتم ، كتاب نبراس الضياء ، خلسةالملوك ، الرواشح السماوية وهو في علم الحديث والدراية – ونسخة منهذا الكتاب كانت موجودة عند صاحب روضات الجنات بخط صدرالدين- كتاب السبع الشداد ، الضوابط ، الايماضات والتشريقات ، شرحالاستبصار ، سدرة المنتهى في تفسير القرآن ، وله رسالة في ان المنتسببالام الى هاشم من السادات الكرام على ما اختاره العلامة جمال الدينالقاسمي الدمشقي، وله ايضا حواش على الكافي، وكتاب من لا يحضرهالفقيه، وهما من اهم كتب الحديث .
والمير الفندرسكي الذي ارشده اليهما هو ابوالقاسم الفندرسكي،وفندرسك من نواحي استراباد ايران (32) ، حكيم الهي صوفي زاهد شاعر، كانبارعا في العلوم الرياضية والفلسفة، وارتاض في الهند مدة مديدة وبعد انعاد من الهند الى العراق دعا اهل العلم الى مسلكه، توفي بين سنة 1030ه . و سنة 1040 ه .
تلامذته المشهورون
ومن اشهر تلامذته محمد بن مرتضى المدعو بمحسن الفيض، وهوختن صدرالدين، كان عالما محدثا صلبا كثير الطعن على المجتهدين، وقدسبق كلام صاحب، لؤلؤة البحرين الشيخ يوسف البحراني في مسلكهالتصوفي، تلمذ في الحديث على السيد ماجد البحراني في مدينة شيراز ،وفي اصول العقائد على الفيلسوف صدر الدين محمد بن ابراهيم، وله آثارعلمية افرد لها فهرستا منها: كتاب الصافي في تفسير القرآن الكريم ( طبعفي ايران ) .
واكثر كتبه اخلاقية على سبيل العرفان في السير والسلوك، وهي تشبهكتب الغزالي، ومنها: كتاب المحجة البيضاء في احياء الاحياء، وكتابمحجة الحقائق في اسرار الدين، وكتاب تشريح العالم في بيان العالمواجسامه وارواحه وكيفيته وحركات الافلاك والعناصر وانواع البسائطوالمركبات، وكتاب حدوث العالم ، وراه صواب ( اي طريق الصواب )بالفارسية في سبب اختلاف اهل الاسلام في المذاهب، وكتاب ابطالالجواهر الافراد ، وفهرست العلوم شرح فيه انواع العلوم واصنافها .
قال السيد الجزائري (33) تصانيف استاذي الفيض تربو على مائتي كتابورسالة .
ومنهم المولى عبدالرزاق بن علي بن حسين اللاهيجي الجيلاني ثمالقمي كان حكيما متشرعا ومتكلما محققا ومنشئا بليغا ومنطقيا، وشاعراجليلا له مصنفات كثيرة في الحكمة والكلام، منها: كتابه المشهور بگوهرمراد ، كتاب شرح تجريد نصيرالدين الطوسي الفيلسوف، وهذا الكتاب فيالامور العامة ، كتاب الشوارق في الحكمة ، شرح الهيا كل في حكمةالاشراق ، الكلمات الطيبة في المحاكمة بين المير الداماد وتلميذهصدرالدين في اصالة الماهية والوجود ، رسالة حدوث العالم ، حاشيتهعلى حاشية الخفري على الهيئات ، شرح التجريد ، حاشيته على شرحالاشارات لنصير الدين الطوسي الفلكي ، وكان قد درس على صدرالدين،وكان مدرسا بمدرسة قم الى ان توفي بها بعد النصف من القرن الحادي عشر» .
وردت كلمة موجزة في معلمة الاسلام الانجليزية عن صدرالدينبقلم العالم المستشرق كليمان هوار . وعد من تلاميذه القاضي سعيد القمي،ولكن ترجمته تفيد ا نه تلمذ على محسن الفيض تلميذ صدر الدين، وهوالقاضي سعيد محمد بن محمد مفيد، حكيم اديب عارف، تولى القضاء فيقم، وتلمذ على محسن الفيض الذي سبق ذكره ، وله كتاب كبير شرح بهتوحيد الصدوق (34) في عدة اجزاء، ومنه نسخة في خزانة كتبنا، وهو شرحنفيس يشتمل على انفس مباحث اللاهوت والعرفان (35) ، وكان معظما عندالشاه عباس الصفوي الثاني وامرائه . قرا الحكميات على المولىعبدالرزاق اللاهيجي بقم، وتوفي هناك، ولا يعلم على التحقيق سنة وفاته،والمظنون ان وفاته كانت في اواخر القرن الحادي عشر او اوائلالثاني عشر (36) .
تاليفاته الفلسفية
1 – كتابه الكبير الاسفار، وهو مرآة فلسفته الجلية، صنفه في جبال قمبعد تاملاته العرفانية الفلسفية، في فاتحته يقول بعد الشكوى من العصرواهله في زمن انزوائه في بعض الديار – كما اسلفنا، – ثم اهتز الخامد مننشاطي، وتموج الجامد من انبساطي – الى ان قال:
« فصنفت كتابا الهيا للسالكين المشتغلين بتحصيل الكمال،وابرزت حكمة ربانية للطالبين لاسرار حضرة ذي الجلالوالجمال » (37) .
وترتيبه هكذا:
السفر الاول : وهو الذي من الخلق الى الحق في النظر الى طبيعةالوجود وعوارضه :
و الثاني السفر بالحق في الحق .
والثالث السفر من الحق الى الخلق بالحق .
والرابع السفر بالحق في الخلق .
ثم قال:« فرتبت كتابي هذا طبق حركاتهم في الانوار والآثار على اربعةاسفار، وسميته بالحكمة المتعالية في الاسفار العقلية » (38) .
ولا يخفى ما في هذا القول من النزعة الصوفية مع ان الكتاب يحتويعلى اهم المباحث الفلسفية الالهية، بل جميعها، طبع في ايران قبل عدةسنين .
وهم الكونت دوغو بينو وزعم ان هذا الكتاب الكبير اربع رحلاتكتبها صدر الدين في اسفاره، فانه لما ذكر عدد تآليفه وقال: فضلا عن ذلكوضع اربع رحلات، ووهمه نشا من اسم الكتاب مع ا نه اهم تآليفه ومرآةافكاره الفلسفية، ولم يتدبر في موضوع الكتاب .
2 – كتاب الواردات القلبية.
3 – كتاب المسائل القدسية والقواعد الملكوتية.
4 – كتاب الحكمة العرشية.
5 – كتاب المشاعر.
شرحهما الشيخ احمد زين الدين الاحسائي مؤسس مذهب الشيخية( طبع في ايران ) .
6 – كتاب الشواهد الربوبية، وهو من افضل كتبه الفلسفية واعلاها( طبع في ايران ) .
7 – كتاب المبدا والمعاد، وحاول ان يوفق فيه بين الدين والفلسفة .
8 – كتاب في حدوث العالم، وفيه اهم آرائه الفلسفية .
9 – كتاب شرح الهداية .
10 – حاشية على الهيات الشفاء للرئيس ابن سينا الفيلسوف .
11 – حاشيته على شرح حكمة الاشراق للسهروردي .
12 – اجوبة على مسائل عويصة .
13 – اجوبة على مسائل سالها المحقق الطوسي الفيلسوف عن بعضمعاصريه، ولم يات المعاصر بجوابها .
14 – رسالة في حل الاشكالات الفلكية ذكر اسمها في بحث غاياتالافعال الاختيارية في الاسفار .
15 – رسالة في تحقيق اتصاف الماهية بالوجود ( طبع في ايران ) .
16 – رسالة اكسير العارفين في معرفة طريق الحق واليقين .
17 – رسالة في اثبات الشوق للهيولى – المادة – او ذراتها .
18 – رسالة في اتحاد العاقل والمعقول .
19 – رسالة في خلق الاعمال .
20 – رسالة في الحركة الجوهرية، وهي نظرية تفرد بها صدرالدين .
21 – رسالة في سريان الوجود، وهي من انفس تآليفه .
22 – رسالة في الحشر .
23 – رسالة في التصور والتصديق .
24 – رسالة في التشخص .
25 – رسالة في القضاء والقدر .
26 – رسالة اسمها الالواح العمادية .
تآليفه الدينية
وله تآليف دينية من تفسير وحديث، ولكنه انقاد فيها الى الفلسفة اكثرمن انقياده الى الدين ، منها مجموعة تفسير لبعض سور القرآن الكريم وآية( طبع في طهران ) تحتوي على 12 رسالة:
1 – تفسير سورة البقرة .
2 – تفسير آية الكرسي .
3 – تفسير آية النور، هذه الرسالة موجودة الآن بخط صدرالدين فيشيراز عند السيد عبدالحسين ذي الرئاستين العارف الشهير .
4 – تفسير سورة الم سجدة .
5 – تفسير سورة يس .
6 – تفسير سورة الواقعة، كان موجودا بخط صدرالدين عند صاحبروضات الجنات .
7 – تفسير سورة الحديد .
8 – تفسير سورة الجمعة .
9 – تفسير سورة الطارق .
10 – تفسير سورة سبح اسم ربك الاعلى .
11 – تفسير سورة اذا زلزلت .
12 – تفسير آية ( وترى الجبال تحسبها جامدة ) طبعت هذه الرسائلبخط سقيم في ايران .
13 – رسالة اسرار الآيات .
14 – كسر اصنام الجاهلية في كفر جماعة الصوفية، وليعلم انالتصوف في كل عصره كان يطلق على جماعة من الدراويش الاباحيين،ولكن العقليين والاخلاقيين من المتصوفة كان يطلق عليهم في ذلك العصربالعرفاء .
15 – كتاب مفاتيح الغيب ( طبع في ايران ) .
16 – كتاب شرح اصول الكافي تصنيف ابي جعفر محمد بن يعقوببن اسحاق الكليني الرازي المحدث الامامي الشهير المتوفى في سنة( 328 ) او ( 329 ه .) .
قال صاحب روضات الجنات: انه ارفع شرح كتب على احاديث اهلالبيت من الائمة عليهم السلام، وقد سلف منا قول البعض ان اول من شرحهبالكفر صدرا، كم فرق بين النظرين ؟
17 – حواشيه على كتاب الرواشح لاستاذه الداماد، وكانتبخطه عندصاحب الروضات .
روح عصر صدر الدين
اذا اردنا ان نصور شخصية رجل حكيم مفكر ظهر بآراء جديدةوافكار نيرة في محيط مظلم جوه بحسب الجمود والعصبية لابد ان نصورعصره الذي عاش فيه; ليحيط القارئ علما بشخصية ذلك الرجل البارزة .
ان من درس روح العصر الذي ظهر فيه صدرالدين في المحيط الفارسي يتمثل امامه روحان : روح التصوف البحت وتاويل نصوصالشريعة، وروح الجمود على ظواهر الكتاب والسنة، والنضال باشكاله كانبين الروحين يشتد آونة ويضعف اخرى، ومؤلفات الفريقين مشحونةبطعن كل على الآخر، ولحدوث كل من الروحين وسريانها سبب اصلينبينه لنصور به روح عصر الفيلسوف، ولا نعتمد فيما نقول الا على كلماتالثقات المشهورين من العلماء الذين عاشوا في فارس في هذا العصر .
اما سبب حدوث التصوف في فارس وانتشاره فيه هو ان التاريخيدلنا على ان مذهب الباطنية وتعاليم عبدالله وابيه ميمون بن ديصانطافت في كثير من الارجاء الاسلامية، فصادفت في فارس تربة صالحةللنمو; لان الباطنية تظاهرت بمذهب التشيع، وفارس كانت معقل الشيعة،والباطنية تقرب من التصوف الاسلامي; اذ هما يلتقيان في نقطة تاويلنصوص الشريعة وتقريبها من العقل، والقول بان لها باطنا غير ظاهرها;اضف الى ذلك ما كان في افكار الفارسيين من الانس بمذاهب الفلسفتينالاغريقية والهندية اللتين يصح ان يعتبر التصوف الاسلامي وليدهما .
ومعلوم ان المذاهب على انواعها فلسفية كانت ام ادبية ام سياسية اذاوجد لها ناصر ومعاضد من المسيطرين على الامة التي تمذهبتبها تسرعفي خطاها، والتصوف الفارسي من المذاهب التي هيا لها الزمان ناصراومعاضدا قويا; فان الدولة الصفوية التي عاش في ظلها صدرالدين ظهرتمن ناحية التصوف، فاول الملوك الصفويين ومؤسس دولتهم كان صوفيابحتا، وجده الشيخ صفي الدين من اعظم اقطاب الصوفية، وقبره فياردبيل (39) مزار لمريديه الى الآن، وعليه ابنية فخمة .
خرج الشاه اسماعيل الصفوي من جيلان بلفيف من الصوفيةالمريدين له ولجده الشيخ صفي الدين في سنة 906 ه . و هو ابن اربععشرة سنة، وفتح بلاد آذربايجان ، فروح التصوف كانتسارية في ملوكايران الصفويين المعاصرين لصدرالدين.
قال بعض مؤرخي الافرنج . (40) ان تصوف الشيخ صفي الدين هو الذيحفظ كيان الدولة الصفوية نحو مائتي سنة، ولو لا ان السياسة الصفوية فيجنبها كانت تدعو الى تقوية المذهب المخالف له – اي مذهب الجمود الذيكان يحسب نفسه من الدين – لكان التصوف اكثر شيوعا مما كان عليه،وذلك ان سلطان الدين كان قويا، والمسيطرون والملوك مضطرون الىمجاراة تيار الفكر الشائع، وطاعة صوت الجمهور، ولو كان على خلاف مايرغبون وما يضمرون» .
قال الشيخ يوسف البحراني المتوفى سنة 1186ه ، وهو من كبارمحدثي الشيعة في كتابه لؤلؤة البحرين في شان محسن الفيض تلميذصدرالدين وخريجه الكبير ما نصه:
« لاشتهار مذهب الصوفية في ديار العجم وميلهم اليه بل غلوهم فيهصارت له – اي لمحسن – المرتبة العليا في زمانه، والغاية القصوىفي اوانه، وفاق الناس جميع اقرانه، وقول هذا المحدث الثقة الجليليدل على اشتهار مذهب التصوف وكثرة انصاره في العصر الذيعاش فيه صدرالدين، وكان في جنب هذه الروح الجمود باديا فيطائفة من اهل الحديث والفقه، وكانوا متمسكين بظواهر الكتابوالسنة، وكان سببه شدة تمسكهم بالدين واستيلاء سلطانه علىنفوسهم، وبعدهم عن اغراضه واسراره .
وكانوا يرون اتباع العقل المحض والمبادى الفلسفية مروقا عنالدين، وسلوكا لسبيل المضلين » (41) .
والقارئ يجد في ضمن هذه الرسالة كلمات للعلماء المشهورين – منهذه الطائفة كالسيد نعمة الله التستري، والشيخ يوسف السابق الذكر – فيشان الفلسفة والتصوف وشان صدر الدين، يقول الشيخ يوسف في ذيلكلامه السابق:
« كان التصوف شائعا في عصر محسن الفيض حتى جاء على اثرهشيخنا المجلسي (42) ، وسعى غاية السعي في سد تلك الشقاشق الفاغرةواطفاء تلك البدع الباترة (5) » .
وهذا الكلاميمثل للقارئ شقةالخلاف بين المذهبين،قلنا: ان التصوفكان شائعا في عصر صدرالدين الا ان شيوعه كان نسبيا، وكانت الغلبةللجمود; لان السياسة كما قلنا كانت تدعو الى تقوية عضدالدين ورجاله .
لان الصفويين اسسوا دولتهم في ظل الدين والتشيع وموالاة اهلبيتالنبي عليهم السلام، وكان نصر الفقهاء والمحدثين المتمسكين بالظواهرسببا لحفظ عرشهم ودفع كيد خصومهم، ولكن كانت في ضمن هذا النضالللتصوف معركة معنوية صح ان نقول انه كان فائقا على مظاهر الجمود،ويشهد به ان جماعة من العلماء المشهورين بالزعامة الدينية والفقهاء كانوامن انصاره .
فان الشيخ بهاء الدين العاملي المتوفى سنة 1031ه . او 1030ه .الذي اعتمد عليه الشاه عباس الاول الصفوي، وفوض اليه منصب شيخالاسلام في ايران كما ذكر، كان ممن ينصر التصوف وقلبه مطمئن بصحته،وكلماته يلوح منها ذلك .
فهذا دليل على استيلاء روح التصوف على روح هذا الشيخ المحدثالفقيه الذي كان يمثل بظاهره فريق اهل الجمود، وصنف رسالة في وحدةالوجود وبيان مذاهب الصوفية، وقال فيها مانصه:
« ولا شك ا نهم اي الصوفية من اولياء الله تعالى الذين لا خوفعليهم ولا هم يحزنون، والذين لهم البشرى في الحياة الدنيا وفيالآخرة، والذين آمنوا وكانوا يتقون » .طبعت الرسالة في القاهرة سنة 1328 ه .
ويدل عليه كلام صاحب لؤلؤ[ة البحرين] يقول في كتابه المذكور:
« ربما طعن عليه القول بالتصوف لما يتراى من بعض كلماتهواشعاره في هذا العصر الذي تلبد جوه بسحب الجمود، عاشصدرالدين مروج فلسفته التصوف، واصول الفلسفتين الاغريقيةوالفارسية الفهلوية وتمكن من وضع تآليفه الكثيرة الجليلة التياخلدت له الذكر الجميل ولم يصبه ما اصاب الفلاسفة الاحرار منالاضطهاد والزجر والقتل » .
فتوى رجال الدين بكفره
افتى جماعة من رجال الدين والفقه المتمسكين بظواهر الشريعةبكفره، واخذوا عليه امورا:
الاول: ا نه ذهب الى مذهب وحدة الوجود كما صرح به في كتبهوفلسفته حتى في تفسيره نقل قول محيي الدين بن عربي: « ان فرعونمات مؤمنا موحدا » واستحسن هذا الكلام بقوله: « هذا كلام يشم منهرائحة التحقيق » .
الثاني: ا نه ذهب في شرحه لكتاب الكافي، وفي تفسيره لسورةالبقرة، وفي كتابه الكبير «الاسفار» الى انقطاع العذاب عن اهله فيالآخرة، وانكر الخلود في النار، وهو خلاف ما علم بضرورة من الدين .
الثالث: ذكر في الاسفار – في بحث العشق – ان عشق الغلمان وصورالحسان عشق مجازي، وهو قنطرة الى عشق الاله، وفيه روح المذهب البانت يسمي .
الرابع: ا نه ذهب الى المعاد الجسماني بما لا يلائم ظاهر الشريعة،ومذهبه في المعاد كمذهب الشاعر الفيلسوف عمر الخيام في رباعيهالمشهور:
گردون نكرى زعم فرسوده ماست.
جيحون اثرى ز چشم پالوده ماست.
دوزخ شررى زرنج بيهوده ماست.
فردوس دمى زوقت آسوده ماست.
وجد هذا الرباعي بخطه في ظهر بعض تفاسيره، ومعناه قريب من مذهب الخيام:
اى آنكه ز آتش درون مىسوزى.
وز نار جحيم خشم نون مىسوزى.
گر زانكه نمونه زدوزخ خواهى.
بنگر ز درون خود كه چون مىسوزى.
ولقد اجاد الشاعر الكبير محمد السباعي بابراز هذا المعنى الفلسفيفي العربية بقوله:
انني ارسلت روحي آنفا.
في دياجي الغيب كيما اكشفا.
غامضا من عالم الخلد اختفى.
فانثنى روحي ونبا انما.
انا فردوس صفا نار انتقام.
وجد هذا الرباعي بخطه على ظهر تفسيره لسورة الحديد بينرباعيات كلها لخطه:
اى بوالعجب از بسكه ترا بوالعجبست.
وهم همه عشاق جهان از تومست.
مسكين دل من ضعيف وعشق تو قويست.
بيچاره ضعيف كش قوى بايد زيست.
تاثير الفلسفة الاغريقية في نفسه.
منذ ظهر الانسان في الوجود خضعت نفسه بقوى العالم مادية كانت اوارادية، وقوة التعليم من اقوى المؤثرات في النفس الانسانية، ولا سيما اذاكانت القوة المؤثرة مما تقبله النفس بفطرتها اثرت الفلسفة الاغريقيةوتعليم ارسطو واتباعه في نفسه اثرا عميقا ، ذكر في اول الاسفار:
« اني قد صرفت قوتي في سالف الزمان منذ اول الحداثة والريعانفي الفلسفة الالهية بمقدار ما اوتيت من المقدور، وبلغ اليه قسطي منالسعي الموفور، واقتفيت آثار الحكماء السابقين، والفضلاءاللاحقين، مقتبسا من تائجخواطرهم وانظارهم، مستفيدا من ابكارضمائرهم واسرارهم، وحصلت ما وجدتفي كتب اليونانيينوالرؤساء المعلمين تحصيلا يختار اللباب من كل باب » (43) .
وقال في بحثه عن حدوث العالم:
« واعلم ان اساطين الحكمة المعتبرة عند طائفة ثمانية: ثلاثة منالمليين ثالس وانكسيمانس واغاثاذيمون، ومن اليونانيين خمسةانباذقلس وفيثاغورث وسقراط وافلاطون وارسطو قدساللهنفوسهم، واشركنا الله في صالح دعائهم وبركتهم، فلقد اشرقت انوارالحكمة في العالم بسببهم، وانتشرت العلوم الربوبية في القلوببسعيهم، وكل هؤلاء كانوا حكماء زهادا عبادا متالهين معرضين عنالدنيا مقبلين على الآخرة، فهؤلاء يسمون بالحكمة المطلقة، ثملميسم احد بعده هؤلاء حكيما، بل كل واحد منهم ينسب الىصناعة كبقراط الطبيب وغيره » (44) .
منابع افكار صدرالدين وفلسفته
نجد فلسفة صدرالدين تستمد من منابع كثيرة اهمها آراء اليونانيين،ولا سيما آراء ارسطو، و تلميذه ابن سينا ، وافكار محيي الدين بن عربيالصوفي، وتعاليم الدين الاسلامي المستخرجة من القرآن الحكيم والسنةالنبوية، فجدير ان نشير الى هذه المنابع الاربعة على سبيل الايجاز ليعلموجهة فلسفته .
1 – آراء ارسطو : فهي آراء وافكار تراها في كتبه الواصلة الينابواسطة نقلة العصر العباسي الزاهر، وفي كتب اليونان والعرب، اهمها اثباتالحركة الطبيعية الازلية، واثبات احتياج المتحرك بمحرك يتحرك بمحركآخر حتى ينتهي الى متحرك لا يتحرك بآخر، فهو جوهر وفعل معا، فهذاالمحرك الثابت هو الله مصدر الحركة الابدية التي تتحرك بعلة غائية،اي بطريق الجذب نحو العقل الاعظم، والشوق اليه كما يستميلنا الخبرويستهوينا الشيء الجميل بدون دخل لهما في ذلك، وعلى هذا المثالينجذب عالما الارواح والاجسام نحو الله بدافع ذاتي .
وهو يرى ان المادة قديمة، وان المحرك الاول اي الله لم يخلق المادةبل نظمها، وان الله جوهر روحاني يتجلى فيه العقل والحياة باتممظاهرهما، ويتمتع ابدا بالسعادة الكاملة، ولانهما كه بمشاهدة ذاتهلايلتفت الى العالم .
2 – آراء ابن سينا : فهي على ما يظهر لنا آراء فلاسفة اليونان، وافكارارسطو، وتعاليم مدرسة امينوس سكاس التي يسميها العرب بمدرسةالاسكندرانيين، وتعاليم تلميذه . افلوطين الذي يسميه الشهرستانيبالشيخ اليوناني، وهو منظم مذهب استاذه، وكان من آراء هذا الفيلسوفاليوناني فيما وراء الطبيعة ( متافيزكا ) ان هذا العالم كثير الظواهر، دائمالتغير، وهم لم يوجد بنفسه، بل لابد لوجوده من علة سابقة عليه هيالسبب في وجوده، وهذا الذي صدر عنه العالم واحد غير متعدد لا تدركه العقول، ولا تصل الى كنهه الافكار، ولا يحده حد، وهو ازلي قائم بنفسه فوق المادة وفوق الروح وفوق العالم الروحاني، خلق الخلق ولم يحل فيماخلق، بل ظل قائما بنفسه مسيطرا على خلقه، ليس ذاتا، وليس صفة، هوالارادة المطلقة لا يخرج شيء عن ارادته، هو علة العلل ولا علة له، وهوفي كل مكان ولا مكان له .
وبحث ا نه كيف نشا عنه العالم، وكيف صدر هذا العالم المركبالمتغير من البسيط الذي لا يلحقه تغير كان هذا العالم غير موجود ثم وجد،كيف يصدر هذا العالم الفاني، من الله غير الفاني . هل صدر هذا العالم منالصانع عن روية وتفكير او من غير روية ولم وجد الشر في العالم ما النفسواين كانت قبل حلولها بالبدن واين تكون بعد فراقه؟
وهذه المسائل واشباهها التي بحث عنها افلوطين هي مباحثشغلتحيزا من افكار ابن سينا بعد ان ورثها من المعتزلة والصوفية وجمعيةاخوان الصفا ، كما هي المسائل التي درسها صدرالدين وزينها للناظرينفي القرن الحادي عشر، وكانت الشرائع السماوية والقوانين الادبية تشغلمكانا فسيحا في مبادئ ابن سينا، واليك نص قوله في النبوة:
« يوجد رجال ذو طبيعة طاهرة اكتسبت نفوسهم بالطهر وبتعلقهابقوانين العالم العقلي; لذا هم ينالون الالهام ويوحي اليهم العقلالمؤثر في سائر الشؤون، ويوجد غيرهم لا حاجة لهم الى الدرسللاتصال بالعقل المؤثر; لا نهم يعلمون كل شيء بدون واسطة . هؤلاءهم اصحاب العقل المقدس، وهذا العقل لمن السمو بحيث لا يمكنلكل البشر ان ينالهم منه نصيب، وهذا القول صريح في ا نه يقصدباصحاب العقل المقدس الانبياء الذين يحظون بالوحي الرباني كماا نه اعتراف منه باصل كبير من اصول الاديان » .
وهذه النزعة الدينية اثرت في نفس صدرالدين، وصرح في كثير منكتبه بمثل هذا الراي الفلسفي الديني، و بذلك نعلم ان ابن سينا بعيد عمانسبه اليه الكونت دوغوبينو في كتابه المذاهب والفلسفة في آسيا الوسطى بقوله:
« ان ابن سينا نهض بل خرج على ما كان يعلمه الدين منذ اربعمائةسنة، وانه هدم من الاسلام ومن معتقده جانبا عظيما، نعم، انه كانذانفوذ كبير على افكار الملوك والامراء، فجهر بآرائه الفلسفيةبحرية تامة، لكنه احترم في جنبها الدين الاسلامي، وكان حقا معلماكبيرا للفلسفة في ايران الى قدوم جنكيز خان المغولي » .
3 – افكار محيي الدين بن عربي : اكثر افكار هذا الامام الصوفي اختفتعلينا وراء حجاب من الرموز والالغاز، فما عرفناه من افكاره وحصل لنااليقين به هو ا نه كان ممن يعتقد بوحدة الوجود حتى قال: انه كفر النصارىليس بقولهم ان المسيح هو الله بل كفرهم بقولهم انه ابن الله، وكا نه كانيؤمن بنظريات آشور الحلولية على ان له آراء في الاخلاق الفاضلة والتيسلك سبيلها الصوفيون كالحب والسكر والتوبة والمجاهدة والخلوةوالتقوى، ومقامي الخوف والرجاء، ومقام الفكر والذكر واسرارهما، ولهبحث في النبوة واسرارها .
وكان محيي الدين يعد من قادة التصوف وحاملي لوائه ومعلميه فيايران كابن سينا الى زمن جنكيز خان المغولي، يبجله صدرالدين غايةالتبجيل، ويقرن اسمه بكلمات التجليل كالعالم الرباني والعارف الكاملواشباهها، واقتبس صدرالدين آراءه واوردها ضمن الكلمات الفلسفية .
4 – الدين الاسلامي : اما الدين الاسلامي فالقرآن باصوله العالية وسننهالسامية مرآة تعاليم هذا الدين الجلي، آخى بين العلم والدين، وارشد الىتوحيد الحق المهيمن وتنزيهه عن كل نقص وشرك، واعلن باسم اللهواعلاه في وسط كان يعبد الاوثان، ورفض كل باطل، وحطم كل وثنوصنم، وهو النور الذي القى اشعته البيضاء في مدة يسيرة بين الاندلسوالهند، ولا زال سراجا يضيء العالم منذ قرون طويلة، ولكن النزاع فيالخلافة في الصدر الاول الذي امتد الى القرون المتاخرة من ناحية، وتشابهبعض آيات القرآن الذي دعا المفكرين الى النظر فيها من ناحية اخرى كانامن الاسباب التي اوجدت الفرق واحدثت الجدل ، فظهر هذا الدين بمظهرغير مظهره الذي تجلى به في الصدر الاول ظهر منحرفا عن اصله السامي،فبهذه الصورة تلقاه صدر الدين .
وقوف حركة الفلسفة في ايران
كانت لفلسفة ابن سينا حركة قوية في ايران الى ان هجم المغول فيالقرن السابع الهجري فوقفت هذه الحركة; لان الغزاة كانوا يرمون الىالترتيب السياسي وتنظيمه، ولم يكن لهم اهتمام بالفلسفة; لان غاية هؤلاءالفاتحين كانت ان ينشئوا نظاما مدنيا قويا بكل ما يمكن من الوسائل، ولماصباوا الى الاسلام راوا من المعقول ان يسندوا كل الاسناد هذا الدين،فلميوافقوا على نشر فلسفة ابن سينا ومن قال بمذهبه وان هم اهتموا بنشرالفنون والصنائع .
ظهور الدولة الصفوية
قلنا فيما سبق ان الحركة الفلسفية وقفتحينما هجم المغول; لان كبيراهتمامهم كان بنشر الفنون والصنائع وقليلا كانوا يعتنون بالعلم والادب .وسارت الامور هذا السير الى ان تسنم اول الصفويين غارب العرش، وكانصوفيا بحتا، ولكنه لما راى الشيعة مذهبا خاصا بالبلاد الفارسية اولع بهاهو وخلفاؤه ولعا يدل على ذكاء، فانهم روجوا نموها وتبسطها بكل مااوتوا من السطوة والسلطنة، ولم يسن بفلسفة ابن سينا . ولكن الفلسفةكانت تتحرك وتبدي اشارات الحياة لان ارجاع المسببات الى اسبابهاوالفحص عن عللها مما يطلبه الطبع البشري .
طريقة التدريس في آسية
ولما كان الدرس في العلوم العالية في آسية تتلقى مشافهة، وكانالفلاسفة القائلون بمذهب ابن سينا متفرقين وهم نفر قليل كثيروا الخوفامام علماء الدين، اضطر صدرالدين ان يختلي عدة سنين في جبال قممتنقلا في رحلاته في فارس، لاقطا من افواه الحكماء جميع الشروح التينشات من نفوس اصحابها بعد الخبرة والثقة بنفوسهم، وبدا بنفسه يعلم فيالمدن التي يمر بها، ولما لم يكن له منافسون من جهة الفصاحة، ولا منجهة التا نق في العبارة، ولا من جهة سهولة التعبير، كان سامعوه يفرحونبما يلقيه عليهم ويقتنونه بكل حرص، وكانوا كثيرين، ثم كان ينتقي منهمتلاميذ ذوي فضل ممتاز .
خوفه من رجال الدين
وكان صدرالدين نفسه ايضا يخاف رجال الدين المتمسكين بالظواهر، ولهذا كان يسعى جهده ان لا يثير في نفوسهم كامن الريبة، فكانموضوع بحوثه امورا مكنية يثبتها بالادلة الصريحة، ولو لم يفعل ذلكلعرض نفسه لشكاياتهم وتشديدهم عليه تشديدات لا نهاية لها ، فيخاطربالعمل عينه بمستقبل اصلاح الفلسفة الذي كان يكفر به فوفق بين فكرهوبين مقتضيات الاحوال، ولجا الى الوسيلة العظمى ، وسيلة التقيةوالكتمان .
وكان اذا هبط مدينة يحرص على زيارة مجتهديها او علمائهاويجلس في آخر الناس، وكان يطيل السكوت، واذا تكلم نطق بكل هدوءوسكينة مستحسنا كل كلمة تخرج من افواه اولئك الاجلة، وكان اذا سئلعن معارفه لا ينطق الا بالآراء المدونة في اسفار المذهب الشيعي المحض،ولا يشير ابدا الى ا نه يعنى بالفلسفة، وبعد ايام قليلة من رؤية المجتهدينوالعلماء كانوا يدعونه بانفسهم الى ان يدرس تدريسا علنيا، وللحال كانيلبي دعوتهم .
طريقته في نشر فلسفته
كان يجعل عنوان درسه من ابواب الفقه اولا، ثم يزيد المسالة تدقيقافي وجوب اتباع الاوامر والنواهي والفرائض على ما يفعله امهر العلماء فينظرياتهم، فكان هذا العمل يحببه في قلوب العلماء، ويزيده اعتبارا، واذاكان يبحث في باب الوضوء او الصلاة كان ينتقل منها الى اسرارها، ومنهاالى نواميس الوحي، ومنها الى التوحيد، وكان هناك يجد مجالا لاظهارآرائه الفلسفية، وابراز شخصيته الكبيرة بآيات من الحذق والمهارةوالاستدراك، وكشف الاسرار للتلاميذ المتقدمين .
وكان في القاء دروسه يسرد عبارات ذات معنيين راقية تتراىبوجهين لا يفهمها من تلاميذه الا الذين رسخت اقدامهم في الاستنتاج، ثميغطي كل هذه الاقوال بغشاء رقيق من العبارات الدينية التي تؤيد دينه،وتظهر احترامه لمبادئ الدين .
بثه فلسفة ابن سينا
كان ينشر مذهب ابن سينا في الطبقة المنورة كلها، واذا كان يحرصعلى اخفاء مذهبه في كلامه، فكان اخفاؤه له فيما يكتبه اقوى واعظم،والوقوف على حقيقة مذهبه الفلسفي صعب الا لمن اتصل سند درسه الىتلامذته الذين تلقوه عن نفسه، ولمن وقف على اصطلاحاته الفلسفيةوسند آرائه غير مقطوع في هذا العصر، ولكن قل عدد تلامذته اليوم، وكانفي عصر ناصر الدين شاه القاجار جماعة من كبار تلامذته، اي الذين كانواينقلون جيلا بعد جيل عن معلمهم الاكبر من امر فكره، وبايديهم مقاليدالعبارات التي كان يتخذها لكي لا يعبر عن افكاره صريحا .
شخصيته الفلسفية
يقول الكونت دوغوبينو: ان صدرالدين لم يكن منشئ فلسفة جديدة،بل هو اعاد الى فلسفة ابن سينا ضرمها، واضاءها في مصباح جديد،والحق ا نه اظهر شخصيته من ناحية مذهبه الفلسفي، واتى براي جديدمستقل في بعض مسائل فلسفية، وخالف ابن سينا في مسائل جمة،وسنشير الى بعضها ضمن هذه الرسالة، ولا شك ا نه كان مصلحا للفلسفةالآسيوية، وهو الذي البسها ثوبا يقبله كل من ينظر اليها، فقبلها من كان فيعهده، واعجب بنظرياته العارفون، ولا غرو فانه عاش في عهد غير عهدابن سينا، وفي وسط غير وسطه .
بدرسنا شخصية هذا الفيلسوف نراه ا نه اخلد اثر العلم; اذ نفخ فيرميم مذهب ابن سينا، واعاد اليه شبابه في العصر الذي عاش فيه، والبسهحلة مكنته من ان ينتشر في جميع مدارس ايران، واستطاع ان يفسحلمذهبه الفلسفي موطنا بجانب تعاليم الدين .
ولو لا خدمته العلمية لكان نجم الفلسفة يغرب وراء ظلمات الغزواتالمغولية، وعشاق الفلسفة مدينون لهذا الفيلسوف الكبير، وحقا يعد معلماكبيرا للفلسفة في ايران بعد ابن سينا الى الآن .
مذهبه في ازلية العالم المادي وحدوثه
افترق الدين والفلسفة في مسالة قدم العالم وحدوثه، فبالضرورةينتهي البحث الى ازلية المادة وحدوثها قدما زمانيا، يصرح الدين بظاهرهبالحدوث وان يد البارئ ابدعت المادة من العدم، والفلسفة تجهر بالقدم .وقف صدر الدين امام هذه المسالة العويصة وقوف المتحير، وراىنفسه بين تجاذب قوتي الدين والفلسفة .
يقول في اول رسالته في الحدوث:
« هذه المسالة تحيرت فيها افهام الفحول، وتبلدت عن ادراكهااذواق العقول; لغاية غموضها . . . ، والناس فيها بين مقلد كالحيارىومجادل كالسكارى، فمن العقلاء المدققين والفضلاء المناظرين مناعترف بالعجز عن اثبات الحدوث للعالم بالبرهان قائلا: العمدة فيذلك الحديث المشهور، والاجماع من المليين، وانت تعلم انالاعتقاد غير اليقين; اذ الاول قد يحصل بالتقليد او الجدل، وهمامناط الظن والتخمين، والثاني لكونه بصيرة باطنية لا يحصل الابالبرهان المنور للعقول، او بالكشف التام التابع للوصول » (45) .
وزيف آراء المتكلمين التي تمسكوا بها في حدوث المادة وقال:
« فمنهم من يتصدى لاثبات هذا المقصد العظيم المبتنى عليه كثيرمن قواعد الدين القويم بالادلة المتزلزلة الاركان، والاقيسةالمختلة . . . كالمتكلمين . . . زعما منهم ان تمهيد اصول الدين ممايحتاج الى مثل تلك الكلمات الواهية، وما احسن قول الغزالي فيحق من تصدى لنصرة قوام الدين بالامور السخيفة المبتنية علىالمجاز والتخمين: انه صديق جاهل، وقال ايضا: ان ايراد مثلها فيمعرض الانتصار للشرع القويم ربما يؤدي الى خلل عظيم من حيثان ضعفاء العقول ربما يزعمون ان اصول الدين مبتنية على هذهالدعاوي الواهية، وهذا كما ان بعض المحدثين نقل ان بعض الزنادقةوضع الاحاديث في فضل الباذنجان منها: « كلوا الباذنجان فانها اولشجرة آمنتبالله تعالى » . . . وقال: انما وضعه ليتوسل به الى القدحفي صدق احاديث من شهد الله تعالى بصدقه » (46) .
وهو نفسه لم يستطع ان يخطئ مبادئ الدين القائلة بالحدوث لقوةايمانه بالانبياء، وقبول اصول تعاليمهم قبولا فلسفيا .
وفند راي ابي نصر الفارابي المدون في رسالته في الجمع بين رايالحكميين افلاطون وارسطو بتاويله مذهب افلاطون في الحدوثبالحدوث الذاتي والافتقار الى الصانع .
وقال: هذا القول في الحقيقة تكذيب للانبياء من حيث لا يدري،وقال: ان النصوص الماثورة عن افلاطون تعطي ا نه يريد بالحدوثالحدوث الزماني لا الحدوث الذاتي. وقال: وهذا من قصور ابي نصر فيالبلوغ الى شاو الاقدمين .
ونقل عن افلاطون في كتابه المعروف بفاذا وفي كتابه المعروفبطيماوس كما حكى عنه تلامذته كارسطو و طيماوس وشافرطوسوابروقلوس انه قال:
« ان للعالم مبدا محدثا ازليا، واجبا بذاته، عالما بجميع معلوماتهعلى نعت الاسباب الكلية، كان في الازل ولم يكن في الوجود رسمولا طلل الا مثال عند البارئ جل اسمه، ربما يعبر عنه بالعنصرالاول » (47) .
ووجه ايضا راي ارسطو با نه يريد من الحدوث الحدوث الزماني،وراى ان العلم لا يصدق حدوثها من العدم المحض، وفكر فكرا عميقاليحل المعضلة، ولما انتهى فكره الى نقطة وجد فيها سبيله للتخلص منظلمة هذا الشك. راى ان الوقت قد حان ليجهر برايه فقال:
« ان هذه المسالة عندي في غاية الوضوح والانارة، لم اجد مننفسي رخصة في كتمانها وعدم الاشاعة والافاضة بها على منيستاهلها ويقبلها » (48) .
واخذ يجهر برايه قائلا: ان ما سوى الله حادث ولا قديم ذاتا وزماناالا الله تعالى .
نظرية الحركة في الجوهر
سلك في ازلية المادة مسلكا وفق به بين الدين والفلسفة، وابدىنظرية سماها الحركة الجوهرية، وهي نظرية في غاية الغموض والابهامتكاد تشبه نظرية آينشتاين، يعسر فهمها الا بالامعان والتدبر العميق فيفلسفته واصطلاحه .
وهي ان العالم المادي مطلقا لا يزال في تجدد مستمر، فالمادة بجوهرها في الآن الثاني غير المادة في الآن الاول، وهي متحركة دائمابحركة جوهرية، وللهيولى والصورة في كل آن تجدد مستمر، ولتشابهالصور في الجسم البسيط ظن ان فيه صورة واحدة مستمرة لا على التجددوليست كذلك، بل هي واحدة بالحد لا بالعد; لا نها متجددة متعاقبة علىنعت الاتصال، لا بان تكون متفاصلة متجاورة ليلزم تركيب المقاديروالازمنة من غير المنقسمات .
وبهذه النظرية استنتج التوفيق بين الدين والفلسفة ، فالدين انما ارادمن الحدوث تجدد المادة وحركتها حركة جوهرية، وهي حادثة في كل آنوان لم يكن لها مبدا زماني، وهو يوافق العلم، فلا اختلاف بينهما; اذ كلمنهما يقول بالحدوث بهذا المعنى والمبنى، اي تجدد المادة تجدداجوهريا ، وكل منهما يقول بالقدم; لا نه لا يتصور عقلا حدوثها من العدمالبحتحتى يتصور لها مبدا زماني، وهي نتيجة عدة اصول:
منها: ا نه فرض للوجود طرفين، وهو في احد طرفيه فعلية محضة منجميع الجهات، وهو البارئ الموجد تعالى، وبعبارة اوضح: هو الوجودالمطلق، وفيه كل الكمال المتصور الفعلي، وفي طرفه الآخر قوة محضة منجميع الجهات الا في فعلية القوة (49) ، وهذا يطلق على الهيولى . (50) .
فيكون في الوجود طرفان البارئ تعالى والهيولى، والبارئ تعالىوجود اكمل من جميع الجهات ، فلا يحتاج الى الخروج عما كان، وفيالوجود ايضا مرتبة وسطى له الفعلية من جهة، والقوة من اخرى فبالضرورةيكون فيه تركيب، فذاته مركبة من شيئين: احدهما: بالفعل، والآخر:بالقوة، وله من جهة القوة ان يخرج الى الفعل لغيره ، وهذا الخروج اذا كانبالتدريجيسمى حركة، والحركة: هي فعل او كمال اول للشيء الذي هوبالقوة (51) ، ومعنى الحركة: التجدد والانقضاء .
والتجدد فيالمادة صفة ذاتية فلا تحتاج الى جاعل وفاعل يجعلهامتجددة، وهذا الراي يفيد ان يد البارئ اوجدت المادة متحركة، والحركةموضوعة في طبعها، والعلم الحديث ايضا يقول: ان حركة الذرات فيطبعها، ومنها المتحرك انما يتحرك بشيء آخر لا يكون بنفسه متحركا،فتكون حركة بالقوة، فقابل الحركة امر بالقوة، وفاعلها امر بالفعل، والحركةعلى مذهبه سببها وجود فعلية القوة، وللشيء ان يخرج الى الفعل لغيره .
ومنها: ان مبدا الحركة الطبيعة لا النفس ولا العقل (52) ، وقال: الفاعلالمباشر للحركة ليس عقلا محضا عن غير واسطة; لعدم تغيره، ولا نفسا منحيث ذاتها العقلية، بل ان كانت محركة فهي اما من حيث كونها في الجسماو من حيث تعلقها به، فيكون اما طبيعة او في حكم الطبيعة ، والطبيعة علىمذهبه سيالة الذات متجددة الحقيقة، نشات حقيقتها المتجددة بين مادةشانها القبول والزوال، وفاعل محض شانه الافاضة والاكمال، فلا يزالينبعث عن الفاعل امر وينعدم في القابل، ثم يجبره الفاعل بايراد البدل على الاتصال .
فهذه الاصول وصل الى النتيجة التي هي مفاد نظريته، وهي ان مبداالحركة سواء اكانت طبيعية ام ارادية ام قسرية هي الطبيعة، والحركةمعناها: التجدد والانقضاء، ومبدا التجدد لابد ان يكون متجددا فالطبيعةبالضرورة متجددة بحسب الذات; لان المتحرك وهي المادة لا يتصورصدوره عن الساكن، ويستحيل صدوره عن الثابت، وقال: وبصحة هذاالاصل اعترف الرئيس ابن سينا وغيره بان الطبيعة من جهة الثبات ليستعلة الحركة، وقالوا: لابد من لحوق التغير بها من الخارج ، والطبيعة اذاكانت متجددة فالمادة في الآن الثاني بجوهرها غير المادة فيالآن الاول .
قال في آخر الفصل الرابع من رسالة الحدوث:
« تنبيه تمثيلي [عقلي]: ان كان كل شخص جوهري له طبيعة سيالةمتجددة، وله ايضا امر ثابت مستمر نسبته اليها نسبة الروح الىالجسد ، فان الروح الانساني لتجردها باق، وطبيعة البدن ابدا فيالتجدد والسيلان والذوبان، وانما هو متجدد الذات الباقية بورودالامثال، والخلق لفي غفلة عنه، بل هم في لبس من خلق جديد،وكذلك حال الصور الطبيعية فانها متجدد من حيث وجودها الماديالوضعي الزماني، فلها كون تدريجي متبدل غير مستقر الذات، ومنحيث وجودها العقلي وصورتها المفارقة الافلاطونية (16) باقية ازلاوابدا في علم الله تعالى ، فالاول وجود دنيوي بائد داثر لا قرار له،والثاني وجود ثابت غير داثر لاستحالة ان يزول شيء من الاشياءعن علمه، او يتغير علمه تعالى « ان فى هذا لبلاغا لقوم عابدين » (53) ( الانبياء /106 )
ولما ابدى نظريته وتنبه انه تفرد بها قال في الفصل الخامس من رسالةالحدوث:
« اما قولك فيما سبق: ان هذا احداث مذهب لم يقل به احد منالحكماء فهو كذب وظلم، فان اول حكيم قال به في كتابه هو اللهسبحانه، وهو اصدق الحكماء، فانه قال: « وترى الجبال تحسبهاجامدة وهى تمر مر السحاب » ( النمل /88 ) وقال: « بل هم فى لبسمن خلق جديد » ( ق/15 ) . وقوله: « والسموات مطويات بيمينه » .( الزمر /67 ) وقوله: « على ان نبدل امثالكم وننشئكم فى مالاتعلمون » . ( الواقعة /61 )
وتمسك ببعض آيات وروايات اخر نكرنا ذكرها لعدم دلالتها فينظرنا، ثم نقل عن ابن عربي قوله في الفصوص: « ومن اعجب الامران الانسان في الترقي دائما، وهو لا يشعر بذلك للطافة الحجابورقته وتشابه الصور مثل قوله: « واتوا به متشابها » ( البقرة /25 )ونقل قوله في الباب السابع والستين والمائة من الفتوحات، فالوجودكله متحرك على الدوام » (54) .
اختياره مذهب التصوف ووحدة الوجود
هذا الفيلسوف الهي يدور اكثر مباحثه حول التفكر في الاله المبدعووحدته وصفاته المعنوية من العلم والحكمة والقدرة، او ان شئت قلبحث عن القوة المدبرة للكون، وفلسفته تستقي من معين التصوف،ووحدة الوجود معتمدة على المبادئ الاغريقية، وروح فلسفة افلاطونوارسطو بادية باجلى مظاهرها فيها، ويلوح للناظر في كلماته ان اباندرسه الفلسفة خاض مدة مديدة لجج المسائل اللاهوتية، ووازن حججالفلاسفة من الاشراقيين والمشائين، ودرس اصول المتكلمين واصحابالجدل، وعرف ا نها جميعا لا توصل الى الحق، ولا تروي غليله; لا نهامعكرة بتناقض المبادئ .
وكيف تسكن نفس رجل زكي الفؤاد وقاد الذهن بما لا ينير ظلمةالمعضلات في المسائل اللاهوتية العويصة، وهي تحاول ان تبلغ مرتبةالشهود والعيان من مراتب الايمان، وبعد مدة طويلة لما لم يجد ضالته فيدرس ادلة الجدليين – الذين يقول في شان فلسفتهم: اني استغفر اللهواستعيذ عما ضيعتشطرا من عمري في طريقهم غير المستقيم -لاذ بحجر التصوف، وهناك وجد سكونه واطمئنانه، واخذ يسعى فيالتوفيق بينه وبين الشريعة بتاويل نصوصها وتوجيهها اليه .
جرت عادة الباحثين في المسائل اللاهوتية الا الصوفيين ان يضعوابابا في البحث عن الموجد للكون ، ويذكروا فيها ادلة يستمد بعضها منابطال التسلسل او الدور; لزعمهم ان المبدع الحكيم – اي القوة المدبرة -منفصل عن الكون، ولكن الصوفيين يرون ان الوجود المنبسط الذي يمثلالكون بمحسوسه ومعقوله كاف للدلالة على وجود الموجد وصفاته; لا نهعينه، وفي كل شيء آية دالة على وحدته .
ومذهب وحدة الوجود – البانتيسم – الله في الكل والكل في الله هو سرالتصوف وروحه، ولاجل ذلك لايتمسكون بادلة الكلاميين والجدليينوفرق الفلاسفة الذين لقرب فلسفتهم من مبادئهم، ولا يستدلون بوجودالقوة المدبرة المبدعة باكثر من بحثهم في شؤون الوجود المنبسط ومراتبه وظهوره .
وصدرالدين وان افاض في البحث عن كل المباحث اللاهوتية واكثرمباحث الفلسفة الادبية والفلسفة العامة وتبحر فيها، الا ان غرضنا الذينرمي اليه هو ان ناتي من فلسفته بنقطتي الوفاق والخلاف مع الفلسفةالمادية، وهي مسائل طالما سرح الانسان افكاره حولها كمسالة هل المادةازلية ام حادثة؟ وهل للكون مبدع غير الطبع؟ وهل هو شاعر عالم؟ وهلفي خلق الكون غاية وحكمة او لا؟ ثم نردفها ببعض آرائه العلميةوالادبية، وبذلك نصور نفسية رجل حكيم خدم اللغة العربية والعلم خدمةجليلة .
طريقه الى معرفة الله تعالى
يقول في الجزء الثالث من الاسفار الاربعة:
« فصل في اثبات واجب الوجود والوصول الى معرفة ذاته: واعلم انالطرق الى الله كثيرة; لا نه ذو فضائل وجهات كثيرة، ولكل وجهة هوموليها لكن بعضها اوثق واشرف وانور من بعض، واسد البراهينواشرفها اليه هو الذي لا يكون الوسط في البرهان غيره بالحقيقة،فيكون الطريق الى المقصود هو عين المقصود، وهو سبيل الصديقينالذين يستشهدون به تعالى عليه، ثم يستشهدون بذاته على صفاته،وبصفاته على افعاله واحدا بعد واحد، وغير هؤلاء – كالمتكلمينوالطبيعيين وغيرهم – يتوسلون الى معرفة الله تعالى وصفاته بواسطةامر آخر غيره، كالامكان للماهية والحدوث للخلق، والحركةللجسم، او غير ذلك، وهي ايضا دلائل على ذاته، وشواهد علىصفاته، لكن هذا المنهج احكم واشرف، وقد اشير في الكتابالالهي الى تلك الطرق بقوله تعالى: « سنريهم آياتنا فى الآفاق وفىانفسهم حتى يتبين لهم انه الحق » والى هذه الطريقة اشار بقوله:« او لم يكف بربك انه على كل شىء شهيد » .
وذلك لان الربانيينينظرون الى الوجود ويحققونه ويعلمون انه اصل كل شيء، ثميصلون بالنظر اليه الى ا نه بحسب اصل حقيقته واجب الوجود، واماالامكان والحاجة والمعلولية وغير ذلك فانما يلحقه لا لاجلحقيقته، بما هي حقيقته، بل لاجل نقائص واعدام خارجة عن اصلحقيقته ، ثم بالنظر فيما يلزم الوجوب او الامكان يصلون الى توحيدذاته وصفاته، ومن صفاته الى كيفية افعاله وآثاره، وهذه طريقةالانبياء كما في قوله تعالى: « قل هذه سبيلى ادعوا الى الله علىبصيرة » (55) .
وهذا المذهب يشبه مذهب « باسكال » المتوفى سنة 1662 م . ارىفي الطبيعة كائنا واجب الوجود دائما لا نهائيا .وقال في اول رسالته في سريان الوجود:« اعلم ان الواجب الحق هو المتفرد بالوجود الحقيقي وهو عينه،وغيره من الممكنات موجودة بالانتساب اليه، والارتباط به ارتباطاخاصا وانتسابا مخصوصا لا بعروض الوجود كما هو المشهور » .
ثم قال: « ان الوجود قد يطلق ويراد به الكون في الاعيان، ولا شكفي كونه امرا اعتباريا انتزاعيا، وقد يطلق ويراد به ما هو منشالانتزاع الكون في الاعيان ومصحح صدقه وحمله، وهو بهذا المعنىعين الواجب » .وقال بعد بضعة سطور:«ان مناط الوجوب الذاتي ليس الا كون نفس الواجب من حيث هومبدا لانتزاع الوجود والموجودية » .من الاصول المقررة في الفلسفة الالهية التي وضع عليها بعض الآراءالفلسفية، واعترف بها صدرالدين فيما يظهر من كلماته السالفة ان الوجودامر واحد ذو مراتب في الشدة والضعف، وله وحدة معنوية .
ومنها: ان الوجود الحقيقي الذي صح ان يكون منشا لانتزاعالموجودات عنه، والذي هو مصدر الكون، او هو كالشمس منبع الانوارازلي موجود قائم بالذات لا جاعل له.
ومنها: ان مفهوم الوجود من اعرف الاشياء وكنهه في غاية الخفاء .فانا نرى ذرة المادة ونحسها بالبصر ونلمسها باليد ولكن اسال اي انسانتشاء من العلماء الطبيعيين – اي الفيزيولجيين – ما هي؟ وكيف وجدتاازلية ام حادثة؟ وما هو سرها؟ يقف امامك والحيرة ملكت عقلهولايدري ماذا يجيبك، ولا تنفعه اختباراته الكيميائية والفيزيائية .فمعرة كنه الوجود رمز لا يزال مجهولا على رغم جهود الانسان فيكشفه منذ الاجيال والقرون، وذهب سعيه سدى، وكل جناح فكره عنالصول اليه.
فضم هذه الاصول بعضها الى بعض ينتج ان القوة التي اوجدت الكونبمعقوله ومحسوسه، ومثلت اجزاءه المنسقة، ونظمتها بنظامه العجيبهوالله على مذهب صدرالدين، او من هو سالك سبيله في القول بوحدةالوجود (56) ، وهذا الراي قريب من مذهب القائلين بان الطبيعة هي موجدةالكون ازلا.
ونقطة الوفاق بين المذهبين – مذهب وحدة الوجود او الصوفيينومذهب الطبيعيين – هي ما اشرنا اليه، الا ان مذهب الصوفيين وانصاروحدة الوجود – كما سيذكره صدرالدين ونشير اليه – يفارق مذهبالطبيعيين في ان هذه القوة الموجدة التي يطلقون عليها الوجود الحقيقي اوالواجب الوجود واجدة لجميع مراتب الكمال المعقول، ولا يشذ عنها كمالفي الوجود، فلها العلم والقدرة باقصى مراتبهما، فعلمه وقدرته غيرمتناهيين عدة وشدة ومدة.
وصدرالدين والصوفيون وانصار وحدة الوجود لا يقولون بانفصالالمبدا – الله – عن الكون، كما ا نهم لا يقولون بالحلول والاتحاد، بل يقولون:ان ارتباط الكون بالله تعالى وانتسابه كيفية مجهولة .
قال صدرالدين في اول رسالته سريان الوجود ما هذا نصه:« ثم اعلم ان ذلك الارتباط كما مر ليس بالحالية ولا بالمحلية، بلهي نسبة خاصة وتعلق مخصوص يشبه نسبة المعروض الىالعارض بوجه من الوجوه، وليس هي بعينه كما توهم، والحق انحقيقة تلك النسبة والارتباط وكيفيتها مجهولة لا تعرف » .وهذا مذهب مالبرانش.
قال في الكتاب الثالث من تاليفه المسمى بالبحث عن الحقيقة: انجميع الكائنات حتى المادية والدنيوية هي في الله الا ا نها بطريقة روحانيةمحضة لا نستطيع فهمها، يرى الله في داخل ذات نفسه كل الكائنات( ص 71 ) محاضرات العالم « دي جلارزا » الاستاذ في الجامعة المصرية.وايد صدر الدين مذهبه بقوله تعالى: «وهو معكم اين ماكنتم»(الحديد/4)، «ولله المشرق والمغرب فاينما تولوا فثم وجهالله»(البقرة/ 115)، «الا انه بكل شىء محيط»(فصلت / 54)،«واحاط بما لديهم واحصى»(الجن /28)، «وهو الله فى السمواتوفى الارض»(الانعام / 3)، «ونحن اقرب اليه من حبلالوريد»(ق/ 16)، «ونحن اقرب اليه منكم ولكنلاتبصرون»(الواقعة / 85)، «هو الا ول والآخر والظاهروالباطن»(الحديد /3). وهذا الفيلسوف لا يرضى ان تحمل هذه الآياتعلى مجرد علمه تعالى، وقال: ولا تصرف هذه الآيات عن ظواهرها،فحملها على مجرد علمه تعالى بها او غيرها كما هو شيمة الظاهريين ، فانالصرف عن الظواهر من غير داع اليه من عقل او نقل غير جائز اصلا،ولاداعي هناك قطعا، ولا مانع من الحمل على الظواهر على ما عرفناكفاعترف .
وقال صدرالدين ايضا: الاقرب في تقريب تلك النسبة – اعنياحاطته ومعيته بالموجودات – ما قال بعضهم: من ان من عرف معية الروحواحاطتها بالبدن مع تجردها وتنزهها عن الدخول فيه، والخروج عنه،واتصالها به وانفصالها عنه، عرف بوجه ما كيفية احاطته تعالى ومعيتهبالموجودات من غير حلول واتحاد، ولا دخول واتصال، ولا خروجوانفصال وان كان التفاوت في ذلك كثيرا بل لا يتناهى، ولهذا قال: «منعرف نفسه فقد عرف ربه» وللتنبيه على هذا المعنى قال بعض المشايخ شعرا:
حق جان جهان است جهان جمله بدن.
املاك لطائف وحواس اين تن.
افلاك عناصر ومواليد اعضا.
توحيد همين است دگرها همه فن.
اي الله روح العالم، والعالم كجسمه، والاملاك حواس هذا الجسماللطيفة، والافلاك والعناصر الاربعة والمواليد الثلاثة اعضاء هذا الجسد،وهذا هو التوحيد حقا، وغيره لا يتجاوز كونه فنا من الفنون . ثم يقول:
« ولا يتوهم من ظاهر هذا الكلام ان الواجب الحق روح العالمونفسه كما توهم بعض القاصرين تعالى عن ذلك علوا كبيرا، فانذلك على ما حقق في موضعه ممتنع، بل غرضه تقريب كيفيةاحاطته تعالى بالموجودات من بعض الوجوه الى الاذهان السليمةالمستقيمة » .
احاطة الوجود وسعته
وذهب الى سعة في وجود الواجب ( اي الله ) واحاطة معنوية تامةتشمل الكون باجمعه، ولا يشذ عنه شيء، وهذا الراي يوضح مذهبصدرالدين في القوة المبدعة اي ( الله ) كما ا نه يوضح معنى وحدة الوجود .
قال في كتابه الشواهد الربوبية:
« الاشراق العاشر في ا نه جل اسمه كل الوجود. قول اجمالي: كلبسيط الحقيقة من جميع الوجوه فهو بوحدته كل الاشياء والا لكانذاته متحصل القوام من هوية امر ولا هوية امر ولو في العقل، قولتفصيلي: اذا قلنا الانسان بسلب عنه الفرس او الفرسية فليس هو منحيث هو انسان لا فرس، والا لزم من تعقله تعقل ذلك السلب اذسلبا بحتا، بل سلب نحو من الوجود، فكل مصداق لا يجاب سلبالمحمول عنه لا يكون الا مركبا، فان لك ان تحضر في الذهنصورته وصورة ذلك المحمول مواطاة او اشتقاقا، فتقايس بينهماوتسلب احدهما عن الآخر، فما به الشيء هو هو غير ما به يصدقعليه ا نه ليس هو، فاذا قلت زيد ليس بكاتب فلا تكون صورة زيدبما هي صورة زيد ليس بكاتب، والا لكان زيد من حيث هو زيدعدما بحتا، بل لابد وان يكون موضوع هذه القضية مركبا من صورةزيد وامر آخر به يكون مسلوبا عنه الكتابة من قوة او استعداد .
فان الفعل المطلق لا يكون هو بعينه من حيث هو بالفعل عدم فعل آخر،الا ان يكون فيه تركيب من فعل وقوة ولو في العقل بعض تحليله الىماهية ووجود وامكان ووجوب، و واجب الوجود لما كان مجردالوجود القائم بذاته من غير شائبة كثيرة اصلا فلا يسلب عنه شيءمن الاشياء، فهو تمام كل شيء وكماله فالمسلوب عنه ليس الاقصورات الاشياء; لا نه تمامها، وتمام الشيء احق به واوكد له مننفسه، واليه الاشارة في قوله تعالى: « وما رميت اذ رميت ولكنالله رمى » وقوله: « ما يكون من نجوى ثلاثة الا هو رابعهم ولاخمسة الا هو سادسهم » فهو رابع الثلاثة وخامس الاربعة وسادسالخمسة، لا نه بوحدانيتة كل الاشياء وليس هو شيئا من الاشياء، لانوحدته ليست عددية من جنس وحدات الموجودات حتى يحصلمن تكررها الاعداد، بل وحدة حقيقية لا مكافئ لها في الوجود،ولهذا كفر الذين قالوا: ان الله ثالث ثلاثة، ولو قالوا: ثالث اثنينلميكونوا كفارا . ومن الشواهد البينة على هذه الدعوى قوله تعالى:« هو معكم اينما كنتم » فان هذه المعية ليست ممازجة ولا مداخلة،ولا حلولا ولا اتحادا، ولا معية في المرتبة، ولا في درجة الوجود،ولا في الزمان، ولا في الوضع، تعالى عن كل ذلك علوا كبيرا «هوالاول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شىء عليم » (57) .
ونسب اليه هذا الرباعي:
مجموعه كونين باشين سبق.
كرديم تفحص ورقا بعد ورق.
حقا كه نخوانديم ونديديم در او.
جز ذات حق و شئون ذاتيه حق.
اي تصفحنا صفحات الوجود ورقا بعد ورق حقا ما تلونا وما راينافيها الا ذات الحق تعالى، وشؤون ذاته الحقة .
ونسب اليه هذا البيت ايضا:
وما الناس في التمثال الا كثلجة.
وانت لها الماء الذي فيه (57) تابع.
وهذا الراي ايضا يشبه مذهب باسكال الذكر، وهذا المذهب كمذهب الماديين.
وان في المادة مبدا مدبرا هو الله، وان عنصر النظام الذي نعثر عليه فينواحي المادة هو الله، ويشعر بل ينص بقدم المادة وازليتها لان البدع ليسمنفصلا عنه وان كان ارتباطه بطريق مجهول بقي شيء، وفرق بينالمذهبين مذهب صدرالدين ووحدة الوجود، ومذهب الماديين وهو انالماديين ينكرون الشعور العام المسمى بالعلم، وينكرون وجود الغايةوالحكمة في خلق الكون واجزاء العالم ونواميسه الجارية، ولكنصدر الدين يثبت العلم والغاية في كليهما في الوجود .
مذهب صدرالدين في علم البارئ تعالى
من اعوص مسائل اللاهوت التي شغلتحيزا من افكار الفلاسفة مناقدم عصور الفلسفة هي مسالة علم البارئ ( الله )، اضطربت فيها الآراءواختلفت المذاهب حتى بلغت اصول المذاهب الفلسفية في العلم الىثمانية اقوال وآراء; لان علم الواجب على المبادئ الفلسفية لا يقاس بعلم الممكن.
ولما فكر صدر الدين في مذاهب الفلاسفة المتقدمين في العلمفوجدها لا تزيح النقاب عن وجه الحقيقة كما يريد سلك مسلكا في العلميتصل الى مسلك وحدة الوجود، ولكن العصر لم يكن يسمح له بالتصريحبه خوفا من الاضطهاد الديني فذكر:
1 – مذاهب المشائين وابي نصر وابن سينا وبهمنيار.
2 – مذهب الاشراقيين والسهروردي صاحب حكمة الاشراق.
3 – مذهب المعتزلة.
4 – مذهب فرفوريوس.
وقال: ان لكل من هذه المذاهب الاربعة وجها صحيحا لعلمهالتفصيلي، وقال: ولا الذي استراحت اليه قلوب المتاخرين من العلمالاجمالي .
بل كما علمنا الله سبحانه بطريق اختصاصي سوى هذه الطرقالمذكورة، ولا ارى في التنصيص عليه مصلحة لغموضه وعسر ادراكه علىاكثر الافهام، ولكني اشير اليه اشارة يهتدي بها اليه من وفق له، وهو ان ذاته في مرتبة ذاته، مظهر لجميع صفاته واسمائه كلها، وهو ايضا مجلاة يرىبها، وفيها صور جميع الممكنات من غير حلول ولا اتحاد; اذ الحلوليقتضي وجود شيئين لكل منهما وجود يغاير وجود صاحبه، والاتحاديستدعي ثبوت امرين يشتركان في وجود واحد ينتسب ذلك الوجود الىكل منهما بالذات، وهناك ليس كذلك كما اشرنا اليه، بل ذاته بمنزلة مرآةترى فيها صور الموجودات كلها، وليس وجود المرآة وجود ما يتراىفيها اصلا اشارة تمثيلية.
واعلم ان امر المرآة عجيب، وقد خلقها الله عبرة للناظرين، وذلك انما يظهر فيها ويتراى من الصور ليست هي بعينها الاشخاص الخارجيةكما ذهب اليه الرياضيون القائلون بخروج الشعاع، ولا هي صور منطبعةفيها كما اختاره الطبيعيون، ولا هي موجودات عالم المثال كما زعمهالاشراقيون، فان كلا من هذه الوجوه الثلاثة مقدوح مردود بوجوه منالقدح والرد، كما هو مشروح في كتب الحكماء، بل الصواب ما اهتدينا اليهبنور الاعلام الرباني الخاص وهو ان تلك الصور موجودات لا بالذات، بلبالعرض بتبعية وجود الاشخاص المقترنة بجسم مشف وسطح صقيل علىشرائط مخصوصة، فوجودها في الخارج وجود الحكاية بما هي حكاية،وهكذا يكون وجود الماهيات والطبائع الكلية عندنا في الخارج، فالكليالطبيعي اي الماهية من حيث هي موجودة بالعرض; لا نه حكاية الوجودليس معدوما مطلقا كما عليه المتكلمون، ولا موجودا اصليا كما عليهالحكماء، بل له وجود ظلي الخ . ايضاح هذا المطلب يتم بعدة مقدمات:
الاولى : ان علم البارئ يمثل بعلم النفس بذاتها، فان العلم والمعلومهناك واحد، فالنفس عالمة، ومعلومة، والعلم ايضا قائم بها .
الثانية : ان وجود البارئ ببساطته لا يشاب بعدم ونقص، وله كماللانهائي، فارفع درجات العلم واكملها موجود هناك، ولا يشوبه غيبة شيءولا صغيرة ولا كبيرة الا احصاها اذ لو بقي شيء من الاشياء ولم يكنذلك العلم علما به لم يكن صرف حقيقة العلم، بل علما بوجه، وجهلابوجه آخر، وصرف حقيقة الشيء لا تمتزج بغيره، والا لم يخرججميعه من القوة الى الفعل ( اي لم يبلغ حد الكمال وهو خلافالفرض ) وعلمه الى وجوده فكما ان وجوده لا يشاب بعدم ونقصفكذلك علمه الذي هو حضور ذاته لا يشاب بغيبة شيء من الاشياء علىا نه تعالى محقق الحقائق ومشيء الاشياء، فحضور ذاته تعالى حضور كلشيء .
الثالثة : ان مثل الواجب البارئ كمثل المرآة، ومثل الموجوداتالممكنات كمثل الصور المرئية فيها، المنطبعة على صفحتها بواسطة اسبابهامن محاذاة ذي الصورة لها و وجود النور وغيرهما، فالصورة مرئية فيهاوبها ولكن كيفية انطباعها وظهورها مجهولة لنا، فتلك الموجودات تظهرفي وجه الله، وقيامها وظهورها يكون به تعالى، فالطبائع الكلية لها وجودظلي، ولو لا وجود البارئ لم يكن لها ظهور، كما ا نه لو لا المرآة لم يكنللصور ظهور ووجود . فنحن نبصر الصور في المرآة ولا نعلم كيفيةانطباعها، فكذلك نرى الموجودات وهي قائمة به تعالى ولكن لا ندري ماهو الوجود الحق الواجب .
الرابعة : فهو عالم بذاته، وعلمه هو حضور الذات، فنحن اذا فرضنا انالمرآة شعرت بذاتها المنطبعة فيها الصور يكون المثل اقرب الى المقصود ،فالوجود اللانهائي عالم بالوجود كافة .
هذه نهاية ما يصور ويدرك من فلسفة صدرالدين في العلم فهمناه منجملة كلامه المستور بستائر التقية، ثم هذا العلم يتعلق بعلمه المتعلقبالايجاد .
مذهب صدرالدين في الحكمة في اجزاء الكون و القصد من وجودها
من المسائل الفلسفية الغامضة التي تحير فيها كبار الفلاسفة مسالةوجود القصد، والحكمة في تكون العالم، يقول صدرالدين :
« زعم انياذقلس ان تكون الاجرام الاسطقسية بالاتفاق، وذهب ذميقراطيس ومن تبعه ان العالم وجد بالاتفاق، وان لم يكن تكونالحيوان والنبات بالاتفاق .
يقول الثاني: ان مبادئ العالم اجرام صغار لا تتجزا لصلابتها، وهيمبثوثة في خلاء غير متناه، وهي متشاكلة الطبائع مختلفة الاشكالدائمة الحركة، فاتفق ان تصادمت منها جملة واجتمعت على هيئةمخصوصة فتكون منها هذا العالم .
ويقول الاول: ان تكون الاجرام الاسطقسية بالاتفاق فما اتفق انكانت هيئة اجتماعية على وجه يصلح للبقاء والنسل بقي، وما اتفقان لم يكن كذلك لم يبق، واحتجب حجج:
منها: الطبيعة لا روية لها فلا يعقل ان يكون فعلها لاجل غرض.
ومنها: ان الفساد والموت والتشويهات والزوائد ليست مقصودةللطبيعة مع ان لها نظاما لا يتغير كاضدادها، فعلم ان الجميع غيرمقصود للطبيعة، فان نظام الذبول وان كان على عكس النشو، والنمولكن له كعكسه نظام لا يتغير، ونهج لا يمهل، ولما كان نظام الذبولضرورة المادة من دون ان يكون مقصودا للطبيعة، فلا جرم نحكمبان نظام النشوء والنمو ايضا بسبب ضرورة المادة بلا قصد وداعيةللطبيعة، وهذا كالمطر الذي يعلم جزما ا نه كائن لضرورة المادة;اذالشمس اذا بخرت الماء فخلص البخار الى الجو البارد فلما بردصار ماء ثقيلا فنزل ضرورة، فاتفق ان يقع في مصالح فيظن انالامطار مقصودة لتلك المصالح، وليس كذلك بل لضرورة المادة .
ومنها: ان الطبيعة الواحدة تفعل افعالا مختلفة مثل الحرارة فانهاتحل الشمع، وتعقد الملح، وتسود وجه القصار، وتبيض وجه الثوب،فهذه حجج القائلين بالاتفاق » (58) .
وضع صدر الدين اولا مقدمة في دحض حجج هذا المذهب مفادها:ان الامور الممكنة على اربعة اقسام:
1 – الدائمي، وهو يوجد بعلته ولا يعارضه معارض كحركة المنظومةالشمسية مثلا .
2 – الاكثري، وهو قد يعارضه كالنار في اكثر الامر تحرق الحطب،وهو يتم بشرط عدم المعارض سواء اكان طبيعيا او اراديا، فان الارادة مع التصميم وتهيؤه للحركة وعدم مانع للحركة وناقض للعزيمة وامكانالوصول الى المطلوب فبين انه يستحيل ان لا يوصل اليه .
3 – ما يحصل بالتساوي كقعود زيد وقيامه .
4 – ما يحصل نادرا او على الاقل كتكون اصبع زائدة، اما ما يكونعلى الدوام او على الاكثر فوجودهما لا يكون بالاتفاق; لان الاتفاق معناهان لا يخضع الشيء للنظام المستمر او الاكثر، والثالث والرابع قد يكونان- باعتبار ما – واجبا، اي خاضعا لناموس لا يتغير، مثل ان يشترط انالمادة في تكون كف الجنين فضلت عن المصروف عنها الى الاصابعالخمس، والقوة الفاعلة صادفت استعدادا تاما في مادة طبيعية، فيجب انيتخلق اصبع زائدة، فعند هذه الشروط يجب تكون الاصبع الزائدة،ويكون ذلك ايضا من باب الدائم بالنسبة الى هذه الطبيعة الجزئية وان كاننادرا قليلا بالقياس الى سائر افراد النوع، فاذا حقق الامر في تكون الامرالاقل انه دائم بشروطه واسبابه، ففي صيرورة المساوي اكثريا او دائميابملاحظة شروطه واسبابه لم يبق ريبة، فالامور الموجودة بالاتفاق انماهي بالاتفاق عند الجاهل باسبابها وعللها، واما بالقياس الى مسببالاسباب والاسباب المكتنفة بها فلم يكن شيء من الموجودات اتفاقا كماوقع في السنة الحكماء الاشياء كلها عند الاوائل واجبات.
فلو احاط الانسان بجميع الاسباب والعلل حتى لميشذ عن علمه شيء لميكن شيء عنده موجودا بالاتفاق، فان عثر حافر بئر على كنز فهوبالقياس الى الجاهل بالاسباب التي ساقت الحافر الى الكنز اتفاق، وامابالقياس الى من احاط بالاسباب المؤدية اليه ليس بالاتفاق بل بالوجوب.
فقد ثبت ان الاسباب الاتفاقية حيث تكون لاجل شيء الا انهااسباب فاعلية بالعرض، والغايات غايات بالعرض، وربما يتادى السببالاتفاقي الى غايته الذاتية كالحجر الهابط اذا شج ثم هبط الى مهبطه الذيهو الغاية الذاتية، وربما لا يتادى الى غايته الذاتية بل اقتصر على الاتفاقيكالحجر الهابط اذا شج ووقف، ففي الاول يسمى بالقياس الى الغايةالطبيعية سببا ذاتيا، وبالقياس الى الغاية العرضية سببا اتفاقيا وفيالثانييسمي بالقياس الى الغاية الذاتية باطلا.
فاذا تحقق ذلك فقد علم ان الاتفاق غاية عرضية لامر طبيعي اوارادي او قسري ينتهي الى طبيعة او ارادة، فتكون الطبيعة والارادة اقدم منالاتفاق لذاتيهما، فما لم يكن اولا امور طبيعية او ارادية لم يقع اتفاقا،فالامور الطبيعية والارادية متوجهة نحو غايات بالذات، والاتفاق طارئعليهما اذا قيس اليهما من حيث ان الامر الكائن في نفسه غير متوقع عنها،اذ ليس دائما ولا اكثريا لكن يلزم ان يكون من شانها التادية اليها، ثم اخذفي دحض حجج الاتفاقي على التفصيل:
دحض الحجة الاولى: بان الطبيعة اذا عدمت الروية ولا يستلزم اويوجب ان يكون الفعل الصادر عنها غير متوجه الى غاية، فان الرويةلا تجعل الفعل ذا غاية، بل انما يتميز الفعل الذي يختار ويعينه من بينافعال يجوز اختيارها ، ثم يكون لكل فعل من تلك الافعال غايةمخصوصة يلزم تادي ذلك الفعل اليها لذاته لابجعل جاعل حتى لو قدركون النفس مسلمة عن اختلاف الدواعي والصوارف، لكان يصدر عنالناس فعل متشابه على نهج واحد من غير روية كما في الفلك، فان الافلاكسليمة عن البواعث والعوارض المختلفة، فلاجرم ان تكون افاعيلها علىنهج واحد من غير روية، ومما يؤيد ذلك ان نفس الروية فعل ذو غاية وهيلا تحتاج الى روية اخرى .
و ايضا ان الصناعات لا شبهة في تحقق غايات لها، ثم اذا صارتملكة لم يحتج في استعمالها الى الروية، بل ربما تكون مانعة كالكاتبالماهر لا يروي في كل حرف، وكذا العواد الماهر لا يتفكر في كل نقرة، واذاروى الكاتب في كتبه حرفا والعواد في نقره يتبلد في صناعته، فللطبيعةغايات بلا قصد وروية .
ودحض الحجة الثانية: بان الفساد في هذه الكائنات تارة لعدمكمالاتها، وتارة لحصول موانع وارادات خارجة عن مجرى الطبيعة .اما الاعدام فليس من شرط كون الطبيعة متوجهة الى غاية ان تبلغاليها، فالموت والفساد والذبول كل ذلك لقصور الطبيعة عن البلوغ الىالغاية، وها هنا سر ليس هذا المشهد موضع بيانه.
واما نظام الذبول هو ايضا متاد الى غاية، وذلك لان له سببين:احدهما بالذات وهو الحرارة، والآخر بالعرض وهو الطبيعة، ولكل منهماغاية، فالحرارة غايتها تحليل الرطوبات فتسوق المادة اليه وتقنيتها علىالنظام، ذلك للحرارة بالذات والطبيعة التي في البدن غايتها حفظ البدن ماامكن بامداد بعد امداد، ولكن كل مدد تال يكون الاستمداد منه اقل منالمدد الاول ، فيكون نقصان الامداد سببا لنظام الذبول بالعرض، والتحليلسببا بالذات للذبول، وفعل كل واحد منهما متوجه الى غاية، ثم ان الموتوان لم يكن غاية بالقياس الى بدن جزئي فهو غاية بالقياس الى نظامواجب لما اعد للنفس من الحياة السرمدية، وكذا ضعف البدن وذبوله لمايتبعها من رياضات النفس وكسر قواها البدنية التي بسببها تستعد للآخرةعلى ما يعرف في علم النفس .
واما الزيادات فهي كائنة لغاية ما، فان المادة اذا فضلت افادتهاالطبيعة الصورة التي تستحقها ولا تعطلها كما علمت، فيكون فعل الطبيعةفيها بالغاية وان لم يكن غاية للبدن بمجموعه، ونحن لم ندع ان كل غايةلطبيعة يجب ان يكون غاية لغيرها .
واما ما نقل في المطر فممنوع، بل السبب فيه اوضاع سماوية تلحقهاقوابل واستعدادات ارضية للنظام الكلي، وانفتاح الخيرات ونزول البركات فهي اسباب الهية لها غايات دائمة او اكثرية في الطبيعة .
ودحض الثالثة: بان القوة المحرقة لها غاية واحدة هي احالة المحترقالى مشاكلة جوهرها، واما سائر الافاعيل كالعقد والحل والتسويدوالتبييض وغيرها فانما هي توابع ضرورية، وستعلم اقسام الضروريالذي هو احد الغايات بالعرض .
وقد ذكر في كتاب الشفاء ابطال مذهب انباذقلس ببيانات مبنية على المشاهدات وشواهد موضحة، ولذلك حمل بعضهم كلامه في البختوالاتفاق على ا نه من الرموز والتجوزات، او ا نه مختلق عليه; لدلالة ماتصفحه ووجده من كلامه على قوة سلوكه وعلو قدره في العلوم، ومنجملة تلك الدلائل الواضحة ان البقعة الواحدة اذا سقطت فيها حبة بر وحبةشعير انبت البر برا والشعير شعيرا، فعلم ان صيرورة جزء من الارض براوالآخر شعيرا لاجل ان القوة الفاعلة تحركها الى تلك الصور لا لضرورةالمادة لتشابه ها، ولو فرض ان اجزاء الارض مختلفة فاختلافها ليسبالماهية الارضية، بل لان قوة في الحبة افادت تلك الخاصية لذلك الجزءالارضي، فان كانت افادت تلك الخاصية لخاصية اخرى سابقة عليها لزمالتسلسل، وان لم يكن كذلك كانت القوة المودعة في البرة لذاتها متوجهةالى غاية معينة والا فلم لا ينبت الزيتون برا والبطيخ شعيرا؟
نظريته في حس المادة وعشق الهيولى
اذا القيت نظرتك في كتب الفلسفة لقيتبين الآراء الفلسفية المختلفةرايا لبعض الفلاسفة القدماء، وهو انللهيولى شوقا الى الصورة، وكان هذاالراي مجملا ومبهما لم يوضح المراد منه، وناهيك ان مثل الشيخ الرئيسابن سينا الفيلسوف اعترف با نه تعسر عليه فهم معنى شوق الهيولىالىالصورة، ولذلك كان هذا الراي موضع شك وارتياب بينهم حتى تفرقتالفلاسفة فيه الى ناف . احتج في نفيه بادلة لا تغني من الحق شيئا، وشاكلمتقنع نفسه بدليل النفي والاثبات، ومثبت انار برهانه في اثباته، ونحننورد كلام الرئيس ابن سينا المتضمن لدليل النفي وشكه فيه ايضاحا لرايصدرالدين، قال (59) :
« وقد يذكر حال شوق الهيولى الى الصورة وتشبهها بالانثى وتشبهالصورة بالذكر، وهذا شيء لست افهمه . اما الشوق النفسانيفلايختلف في سلبه عن الهيولى . واما الشوق التسخيري الطبيعيالذي يكون انبعاثه على سبيل الانسياق كما للحجر الى الاسفلليستكمل بعد نقص له في اينه الطبيعي، فهذا الشوق ايضا بعيد عنهولقد كان يجوز ان تكون الهيولى مشتاقة الى الصورة لو كان هناكخلو عن الصورة كلها، او ملال صورة قارنتها، او فقدان القناعة بمايحصل له من الصور المكملة اياها نوعا، وكان لها ان تتحرك بنفسهاالى اكتساب الصورة كما للحجر في اكتساب الاين ( الانتهاء خ ل )ان كان فيها قوة محركة وليستخالية عن الصور كلها، ولا يليق بهاالملال للصورة الحاصلة، فتعمل فينقضها ورفضها، فان حصول هذهالصورة ان كان موجبا للملال لنفس حصولها وجب ان لا يشتاقاليها، وان كان لمدة طالت فيكون الشوق عارضا لها بعد حين، لاامرافي جوهرها، ويكون هناك سبب يوجبه، ولا يجوز ايضا ان تكونغير قنعة بما يحصل، بل مشتاقة الى اجتماع الاضداد فيها، فان هذامحال، والمحال ربما ظن ا نه ينساق اليه الاشتياق النفساني، واماالاشتياق التسخيري فانما يكون الى غاية في الطبيعة المكملة، والغايات الطبيعية غير محالة، ومع هذا فكيف يجوز ان تتحركالهيولى الى الصورة، وانما تاتيها الصورة الطارئة من سبب يبطلصورتها الموجودة، لا ا نها تكسبها بحركتها، ولو لم يجعلوا هذاالشوق الى الصورة المقومة التي هي كمالات اولى، بل الىالكمالات الثانية اللاحقة، لكان تصور معنى هذا الشوق من المتعذر،فكيف وقد جعلوا ذلك شوقا لهاالى الصورة المقومة؟ » .
قال صدر الدين في اول كلامه:
« ان راي شوق الهيولى الى الصورة مبني على المكاشفات النوريةوالبراهين اليقينية بعد تصفية الباطن بالرياضات » .
ثم قال بعد كلام الرئيس المذكور:
« اني لاجل محافظتي على التادب بالنسبة الى مشايخي في العلومواساتيذي في معرفة الحقائق – الذين هم اشباه آبائي الروحانيةواجدادي العقلانية من العقول القادسة والنفوس العالية – لست اجدرخصة من نفسي في كشف الحقيقة فيما اعترف مثل الشيخ الرئيسعظم الله قدره في النشاتين العقلية والمثالية، ورفع شانه فيالدرجتين العلمية والعملية بالعجز عن دركه والعسر في معرفته، بلكنت رايت السكوت عما سكت عنه اولى واحق، والاعتراف بالعجزعما عجز فيه لصعوبته وتعسره احرى واليق وان كان الامر واضحاعندي، منقحا لدي، حتى اقترح علي بعض اخواني في الدينواصحابي في ابتغاء اليقين ان اوضح بيان الشوق الذي اثبته افاخمالحكماء القدماء، واكابر العرفاء من الاولياء في الجوهر الهيولاني،واكشف قناع الاجمال عما اشاروا اليه، واستخرج كنوز الرموز فيماستروه، وافصل ما اجملوه، واظهر ما كتموه من التوقان الطبيعي فيالقوة المادية، فالزمني اسعافه لشدة اقتراحه، والجاني في انجاحطلبته لقوة ارتياحه، فاقول ومن الله التاييد والتسديد: انه لابد منوضع اصول لتحقيق هذا المقام تمهيدا وتاصيلا .
1 – ان الوجود حقيقة واحدة عينية ليس مجرد مفهوم ذهني ومعقولثانوي كما زعمه المتاخرون، وان الاختلاف في مراتبه وافراده ليسبامور فصلية او عرضية، بل بتقدم وتاخر وكمال ونقص وشدةوضعف، وان صفاته الكمالية من العلم والقدرة والارادة هي عينذاته; لان حقيقة الوجود وسنخه بنفس تجوهره مبدا لسائرالكمالات الوجودية، فاذا قوي الوجود في شيء من الموجود قويمعه جميع صفاته الكمالية، واذا ضعف ضعفت .
2 – ان حقيقة كل ماهية هي وجودها الخاص الذي توجد به تلكالماهية على الاستتباع، وان المتحقق في الخارج والفائض عن العلةلكل شيء هو نحو وجوده . واما المسمى بالماهية فهي انما توجد فيالواقع وتصدر عن العلة لا لذاتها، بل لاتحادها مع ما هو الموجودوالمفاض بالذات عن السبب، والاتحاد بين الماهية والوجود علىنحو الاتحاد بين الحكاية والمحكي والمرآة والمرئي، فان ماهية كلشيء هي حكاية عقلية عنه، وشبح ذهني لرؤيته في الخارج، وظلله . . .
3 – ان الوجود على الاطلاق مؤثر ومعشوق ومتشوق اليه، واماالآفات والعاهات التي تتراى في بعض الموجودات فهي: اماراجعة الى الاعدام والقصورات وضعف بعض الحقائق عن احتمالالنحو الافضل من الوجود ، واما ا نها ترجع الى التصادم بين نحوينمن الوجود في الاشياء الواقعة في عالم التضايق والتصادموالتعارض والتضاد . . .
4 – ان معنى الشوق هو طلب كمال ما هو حاصل بوجه وغير حاصلبوجه، فان العادم لامر ما راسا لا يشتاقه ولا يطلبه; اذ الشوقللمعدوم المحض والطلب للمجهول المطلق مستحيل، وكذا الواجدلامر مالا يشتاقه ولا يطلبه لاستحالة تحصيل الحاصل » (60) .
وعلى مذهبه ان الوجود الكامل الذي لا نقص فيه هو الله، وهو علىذلك لا يطلب شيئا، وينبغي ان يشتاق اليه الوجود الذي احتمل بواسطةحوصلة ذواتها ووعاء وجوداتها مرتبة دون مرتبة الواجب، اي مرتبةناقصة، وقال:« اذا تمهدت هذه الاركان والاصول . . . فنقول: اما اثبات الشوقفيالهيولى الاولى فلان لها مرتبة من الوجود، وحظا من الكون كمااعترف الشيخ الرئيس وغيره من محصلي اتباع المشائين . . . وانكانت مرتبتها في الوجود مرتبة ضعيفة، لا نها عبارة عن قوة وجودالاشياء الفائضة عليها المتحدة بها اتحاد المادة بالصورة في الوجودواتحاد الجنس بالفصل في الماهية، واذا كان لها نحو من الوجود- وقد علم بحكم المقدمة الاولى ان سنخ الوجود واحد ومتحد معالعلم والارادة والقدرة من الكمالات اللازمة للوجود اينما تحققوكيفما تحقق – فيكون لها نحو من الشعور بالكمال شعورا ضعيفاعلى قدر ضعف وجودها الذي هو ذاتها وهويتها بحكم المقدمةالثانية، فيكون لاجل شعورها بالوجود الناقص لها طالبة للوجودالمطلق الكامل الذي هو مطلوب ومؤثر بالذات للجميع بحكمالمقدمة الثالثة . ولما كان بحكم المقدمة الرابعة كلما حصل له بعضمن الكمالات ولم يحصل له تمامه يكون مشتاقا الى حصول ما يفقدمنه شوقا بازاء ما يحاذي ذلك المفقود ويطابقه، وطالبا لتتميم مايوجد فيه بحصول ذلك التمام، فتكون الهيولى في غاية الشوق الىما يكمله ويتممه من الصور الطبيعية المحصلة اياها نوعا خاصا منالانواع الطبيعية . . . » (61) .
يتم هذا الراي بان نذكر معنى الهيولى المستعمل في الفلسفةالاغريقية، وهي لفظ يوناني معناه الاصل والمادة . وعرفه الرئيس ابن سينافي رسالة الحدود بقوله: « الهيولى المطلقة هي جوهر، ووجوده بالفعل انمايحصل بقبول الصورة الجسمية بقوة فيه قابلة للصور » وقال ايضا في حدالمادة: « ان المادة قد تقال اسما مرادفا للهيولى » وهي تطلق في الفلسفةالاغريقية والاسلامية على اصغر ذرة من المادة، وهي التي يطلق عليهاالعلم الحديثبهيات او اقوم، وهي الذرة الصغيرة التي لا تراها العينالمجردة لصغرها .
يقول ابن رشد الفيلسوف في كتابه ما بعد الطبيعة: « [الهيولى] الاولىغير مصورة والا لا تحقق في عالم المادة لما لا صورة له » ولذلك قالالرئيس في كلامه السابق: «لا خلو لها من الصورة» فاذا تحقق هذا فروحهذا المذهب الفلسفي .
وراى صدرالدين ان ذرات المادة مطلقا المعبر عنها بالهيولى ذاتشعور وحس; لان لها حظا من الوجود، والوجود نفسه – كما تحقق فيالاصل الاول الذي مهده صدر الدين – له متحد مع العلم والارادة والقدرةاينما ظهر في اصغر ذرة في المادة، او اكبر جرم من الفلك، فلها نحو منالشعور بالكمال كما صرح في كلامه، وهذا الراي هو نفس راي« جاجاديس بوز » العالم النباتي الهندي في احساس الجماد والنبات، وانالمادة سواء اكان انسانا عاقلا ام حديدا ام نباتا او صخرا تحس .
اذا كشف بوز حس المادة بقوة جهازه الكوسكوغراف المغناطيسيالذي يجعل الحركات التي لا ترى بالعين المجردة اكثر وضوحا بخمسينالف الف ضعف فقرة جهاز دماغ هؤلاء الفلاسفة الذين ذهبوا بهذا المذهبوسعة فكرهم لا يقل عن قوة جهاز ( بوز ).والفضل بين فلاسفةالاسلام فيانارة برهان هذا الراي لصدرالدينوهو الفيلسوف الاسلامي الوحيد الذي اطلع هذا النور في سماء العلم.
والعجب ان مبنى راي العالمين صدرالدين وبوز شيء واحد، يقولبوز في احدى محاضراته: «عندما شاهدت هذه المشاهدات، وجربتضروب التجارب المختلفة، وفهمتحس المادة، ورايت فيها وحدةشاملة ينطوي فيها كل شيء، ورايت كيف ان الذرة ترتعش في مويجاتالضوء، وكيف ان ارضنا تعج عجيجا بالحياة وتلك الشموس المتسعة التيتضيء فوقنا، عندئذ ادركت قليلا من مغزى تلك الرسالة التي بشر بهااسلافي منذ ثلاثين قرنا على شطوط نهر ( الكنج ) وهم اولئك الذينلايرون في جميع الظواهر المتغيرة في هذا الكون سوى واحد فقط، اولئكوحدهم يعرفون الحقيقة الازلية ».
ويقول صدرالدين: «ان الوجود حقيقة واحدة والاختلاف بين افرادهومراتبه ليس بتمام الذات والحقيقة، بل بتقدم وتاخر وشدة وضعف وكمالونقص، وان الصفات الكمالية من العلم والقدرة والشعور والارادة عينذاته . فنصيب الوجود الضعيف وذرة المادة من العلم والشعور والارادةعلى قدر وجود نصيبه من نفس الوجود» .
خاتمة في رايه في العشق
بحث في العشق وجعل عنوان البحث قوله « فصل في ذكر عشق الظرفاء والفتيان للاوجه الحسان » وذكر اختلاف الآراء في حسنه وقبح هوهل هو فضيلة او رذيلة ، ثم قال:
« والذي يدل عليه النظر الدقيق والمنهج الانيق وملاحظة الامور عن اسبابها الكلية، ومبادئها العالية، وغاياتها الحكمية، ان هذا العشق- اعني الالتذاذ الشديد بحسن الصورة الجميلة، والمحبة المفرطة لمن وجد فيه الشمائل اللطيفة، وتناسب الاعضاء، وجودة التركيب -لما كان موجودا على نحو وجود الامور الطبيعية في نفوس اكثرالامم من غير تكلف وتصنع، فهو لا محالة من جملة الاوضاع الالهية التي تترتب عليها المصالح والحكم، فلابد ان يكون مستحسنا محمودا، ولا سيما قد وقع من مبادئ فاضلة لاجل غاياتشريفة .
اما المبادئ فلا نا نجد اكثر نفوس الامم التي لها تعليم العلوموالصنائع اللطيفة والآداب والرياضات – مثل اهل فارس واهلالعراق واهل الروم وكل قوم فيهم العلوم الدقيقة والصنائع اللطيفةوالآداب الحسنة – غير خالية عن هذا العشق الذي منشؤه استحسان شمائل المحبوب، ونحن لم نجد احدا ممن له قلب لطيف وطبع رقيقوذهن صاف ونفس رحيمة خاليا عن هذه المحبة في اوقات عمره،ولكن وجدنا سائر النفوس الغليظة، والقلوب القاسية، والطبائعالجافية من الاكراد والزنجخالية عن هذا النوع من المحبة » (62) .
وقال: وبما ان هذه الرغبة والمحبة مودعة نفوس اكثر العلماء والظرفاءفلابد لها من غاية، وجعل من غاية العشق تعليم الصبيان والغلمان العلومالجزئية كالنحو واللغة والبيان والهندسة وغيرها، والصنائع الدقيقة،والآداب الحميدة، والاشعار اللطيفة الموزونة، والنغمات الطيبة، وتهذيبهمبالاخلاق الفاضلة وسائر الكمالات النفسانية، فهذا العشق – بما فيه تكميلالنفوس الناقصة، وتهذيبها من فائدة حكمية وغاية صحيحة – لابدانيكون معدودا من الفضائل والحسنات، لا من الرذائل والسيئات .
وفي الانسان اثر جمال الله وجلاله، واليه الاشارة في قوله تعالى:«لقد خلقنا الانسانفى احسن تقويم»(التين/4) وقوله تعالى «ثم انشاناهخلقا آخر فتبارك الله احسن الخالقين»(المؤمنون/14) وقسم العشق بقسمين حقيقي ومجازي،والاول: هو محبةالله وصفاته وافعاله من حيث هي. والثاني: ينقسم الى نفساني وحيواني،الثاني سببه فرط الشهوةالحيوانية، ومبدؤه شهوة بدنية وطلب لذة بهيمية، ويكون اكثر اعجابه بظاهرالمعشوق ولونه واشكال اعضائه;لا نها اموربدنية، وهو لايعد فضيلة.
والاول سببه استحسان شمائل المحبوب المعشوق، وجودة تركيبه،واعتدال مزاجه، وحسن اخلاقه، وتناسب حركاته وافعاله، وغن جهودلاله، ومبدؤه مشاكلة نفس العاشق والمعشوق في الجوهر، ويكون اكثراعجابه بشمائل المعشوق; لا نها آثار صادرة عن نفسه، فهذا العشق يرقق القلب ويذكي الذهن، وينبه النفس على ادراك الامور الشريفة، وقال:« ولاجل ذلك امر المشايخ – اي الصوفية – مريديهم في الابتداء بالعشق،وقيل: العشق العفيف اولى سبب في تلطيف النفس وتنوير القلب، وفي الاثر: ان الله جميل يحب الجمال » . ثم قال: « ينبغي استعمال هذه المحبة في اواسط السلوك العرفاني، وفي حال ترقيق النفس وتنبيه ها من نوم الغفلة ورقة الطبيعة، واما عند استكمال النفس بالعلوم الالهية وصيرورتهاعقلا بالفعل محيطة بالعلوم الفلكية ذات ملكة الاتصال بعالم القدس فلاينبغي لها عند ذلك الاشتغال بعشق هذه الصورة المحسنة واللحمية،والشمائل اللطيفة البشرية; لان مقامها صار ارفع من هذا المقام » . وسردالاقول في ان العشق هل هو فضيلة او رذيلة او مرض:
ثم قال: « ومنهم من قال: ان العشق هو افراط الشوق الى الاتحاد »واستجود هذا الراي ثم قال:« ولما كان العشق من آثار النفوس فالاتحاد يصير كما بينت في مباحث العقل والمعقول اتحاد النفس العاقلة بصورة العقل، واتحادالنفس الحساسة بصورة المحسوس بالفعل، فعلى هذا المعنى يصح صيرورة النفس العاشقة لشخص متحدة بصورة معشوقها، وذلك بعدتكرير المشاهدات، وتوارد الانظار وشدة الفكر، والذكر في اشكال هوشمائله حتى تصير متمثلة صورته حاضرة مندرجة في ذات العاشق، وهذا ما اوضحنا سبيله وحققنا طريقه » .
وقال: « ان العشق بالحقيقة هو الصورة الحاصلة، وهي المعشوقةبالذات لا الامر الخارجي » . وقال: « اذا تبين ووضح اتحاد العاقل بصورةالمعقول، واتحاد الجوهر الحساس بصورة المحسوس، فقد صح اتحادنفس العاشق بصورة معشوقه بحيث لم يفتقر بعد ذلك الى حضور جسمه،والاستفادة من شخصه كما قال الشاعر:
انا من اهوى ومن اهوى انا.
نحن روحان حللنا بدنا.
فاذا ابصرتني ابصرته.
واذا ابصرته ابصرتنا » (63) .
وخصص قسما من العشق وهو عشق الاله الذي هو العشق الحقيقيبالعلماء المتا لهين المتفكرين في حقائق الوجود، وهم المشار اليهم فيقوله تعالى: « يحبهم ويحبونه »(المائدة / 54) .
وهنا لك نبض عرقه البانتيسمي وقال: «فانه في الحقيقة ما يحب الانفسه لا غيره، فالمحب والمحبوب شيء واحد في الطرفين ».
ونسب رضا قليخان هدايت هذا الرباعي اليه:
آنان كه ره دوست گزيدند همه.
در كوى شهادت آرميدند همه.
در معركه دو كون فتح از عشق است.
هر چند سپاه او شهيدند همه (64) .
حاصل معنى الرباعي ان الفتح في النشاتين الدنيوية والاخروية للعشق وان كان جنده صرعى في معركة الغرام .
پى نوشتها:
1) سبينوزا ) فيلسوف الهي شهير ولد في امستردام سنة 1632 وهو من انصار مذهبوحدة الوجود ( البانتيسم ) قال الدكتور رابوبرت في شانه: انه كان مملوءا بحب الله حتىاصبح لايرى امامه الا الله، توفي سنة ( 1677 م ) .
2) فيلسوف الهي فرنسي ولد في باريس سنة 1638 كان يسعى في سبيل التوفيق بينالدين والفلسفة، وكان يقول: يجب ان نحب الله حبا تاما، توفي سنة ( 1715م ) .
3) عثرنا على كتبه الا القليل منها فوجدناها باللغة العربية سوى رسالة صغيرة بالفارسيةكتبها في مبادئ عرفانية .
4) حاجاديس بوز هو عالمنباتي هندي يعد من مفاخر الهند في هذا العصر، اعترفت لهاوربا بما اسداه الى المعارف الانسانية من يد، واعلنت فوزه بالوصول الى ما كان يتمنىالوصول اليه غير واحد من علمائها الذين بلغوا الذروة العليا بتحقيقاتهم ، وهو الذياخترع الجهاز ( الكرسكوغراف ) المغناطيسي الذي يجعل الحركات التي لا ترى بالعينالمجردة اكثر وضوحا بخمسين الف الف ضعف، واظهر به للملاء حياة النبات وحركته .
5) المجمع ) لعل المولف يريد اطلال اصطخر .
6) نيروز هو عيد الفرس الكبير ، يوم اول الربيع والسنة .
7) المجمع ) التوامين جمع تومان وهو نقد ايراني ذهبي وقيمته 8 فرنكات و 81سانتيما .
8) سياتي ذكر السيد في ضمن تراجم اساتذة صدر الدين .
9) عالم شهير له بعض الآثار العلمية، ولد سنة 1050 ه وتوفي 1112 ه .
10) الشيخ يوسف البحراني من كبار محدثي الامامية وفقائهم، ولد سنة 1107 ه ، وتوفيسنة 1186 ه .
11) لؤلؤة البحرين، ص131.
12) هو محمدباقر بن امير زينالعابدين من فضلاء المتاخرين، ولد في 22 صفر سنة1226 ه . بقصبة خونسار، وتوفي في 14 جمادى الاولى سنة 1313 باصبهان، وكتابهروضات الجنات في تراجم العلماء مشهور، طبع في ايران في سنة 1307 ه .
13) روضات الجنات، ج4، ص122.
14) كتاب اصول الكافي احد الكتب الاربعة المعتمدة في الحديث عند الامامية الامامالمحدث ابي جعفر محمد بن يعقوب بن اسحاق الكليني الرازي المتوفى سنة (328) او(329).
15) اسم هذه الرسالة «النفحات الملكوتية في الرد على الصوفية» .
16) لؤلؤة البحرين، ص131.
17) سلافة العصر، ص491.
18) امل الآمل، ج2، ص233.
19) راجع: لؤلؤة البحرين.
20) روضات الجنات، ج2، ص331.
21) قصص العلماء كتاب في تراجم العلماء لمؤلفه محمد بن سليمان التنكابني الموجود فيعصر ناصر الدين شاه قاجار .
22) قصص العلماء، ص329.
23) صاحب امل الآمل هو محمد بن الحسن الشهير بالحر العاملي ولد سنة 1033، ولم تثبتعندي سنة وفاته .
24) صنيع الدولة من فضلاء عصر ناصرالدين شاه وادبائه المشهورين وامرائه الاجلة .
25) الشواهد الربوبية ، صدرالدين الشيرازي، ص3 .
26) الاسفارالاربعة ، صدرالدين الشيرازي ، ج1 ، ص5 .
27) الاسفارالاربعة ، ج1 ، ص11 .
28) قم مدينة تقع على بعد 120 كيلومترا جنوب طهران الغربي، وكان بدء تمصيرها في ايامالحجاج بن يوسف سنة 83، يقدسها الايرانيون، وفيها دفنت اخت الامام علي بن موسىالرضا( عليهمالسلام )، وهي الآن تعد من المدارس الدينية الكبرى، ويدرس فيها الفقهوالاصول والادب .
29) الاسفارالاربعة، ج1، ص6 – 7.
30) الاسفارالاربعة ، ج1 ، ص7 – 8 .
31) داماد بالفارسية الصهر اشتهر به لان اباه محمدا كان صهر الشيخ علي بن عبدالعالالكركي الشهير بالمحقق الثاني بين علماء الشيعة، وكان مشهورا بالداماد، واشتهر به ابنهايضا .
32) استراباد بلدة صغيرة في نواحي قبائل ترك خراسان .
33) هو السيد نعمة الله الذي سبق ذكره .
34) وعد صاحب كتاب قصص العلماء من تلاميذه الشيخ حسين .
35) طبع في ايران .
36) قاضى سعيد قمى ولد سنة 1049ه . وتوفي سنة 1107ه .
37) الاسفارالاربعة ، ج1 ، ص9 .
38) الاسفار الاربعة ، ج1 ، ص13 .
39) اردبيل مدينة كبيرة في فسيح من الارض واقعة على بعد 210 كيلومترات شرقي تبريزفي شمالي فارس .
40) وهو سرجان ملكم في تاريخه الذي وضعه لايران .
41) لؤلؤة البحرين ، ص131 .
42) هو محمدباقر بن محمد تقي بن مقصود علي المجلسي الاصبهاني من اعظم محدثيالشيعة ورؤسائهم الروحيين في عصر الصفويين، عاصر الشاه سليمان، والشاه سلطانحسين الصفويين، وكان هذا المحدث الكبير ممن يتصدى لشؤون السياسة، ويستشيرهالسلطان في تدبير الملك وتنظيم ايران، وله آثار علمية جليلة كثيرة، منها: كتابه الكبيربحار الانوار في احاديث الائمة الاطهار في 24 مجلدا كبيرا، وفي بعض مجلداته بحثعن علوم متنوعة من الفلك والفلسفة والكلام، ولاسيما في جزئه المسمى بالسماءوالعالم توفي سنة 1111 ه ، ومجلس كما قيل قرية من قرى اصبهان .
43) وفي نسخة البائرة .
44) الاسفارالاربعة ، ج1 ، ص4 .
45) رسالة حدوث العالم ، صدرالدين الشيرازي ، ص274 .
46) رسالة حدوث العالم ، ص182 .
47) رسالة حدوث العالم ، ص182 .
48) منقول في رسالة حدوث العالم ، ص188 .
49) رسالة حدوث العالم ، ص190 .
50) فسر اصطلاحه في القوة بقوله: هو ما يقال لمبدا التغير في شيء آخر من حيث هو شيءآخر سواء اكان فعلا ام انفعالا، ويقول ايضا: ان القوة الفعلية قد تكون مبدا للحركة، واذاكانت مبدا الحركة لا تخلو من التجدد والتغير، فهو متحرك حافظ لتغيره، وقد تكون القوةوراء ما لا يتناهى بما لا تتناهى في الايجاد والابداع كقوة البارئ، وقد يكون فيالانفعال بما لا ينتهي كالهيولى الاولى .
51) فسرنا الهيولى فيما سبق .
52) وهذا تعبير آخر عن سير الوجود نحو الكمال والارتقاء اليه حسب قانون النشوءوالارتقاء .
53) العقل يطلق في اصطلاحه على الجوهر المجرد الروحي .
54) تطلق الصورة الافلاطونية في الفلسفة اليونانية على عالم المثال والجواهر المجردة.
55) الاسفار الاربعة ، صدر الدين الشيرازى ، ج6 ، ص12 – 14 .
56) والى هذا المعنى اشار الشاعر الكبير جميل صدقي الزهاوي .
الله والكون لاع.
-لان الحياة اقترنا.
فما لذا عن ذاك او.
لذاك عن ذا من غنى.
ما الكون الا مظهر.
له به تبينا.
57) الشواهد الربوبية ، صدرالدين الشيرازي ، ص128 .
58) وجدنا البيتبنصه المنقول ولكن ضمير التذكير لا يستقيم الا بارجاعه الى التمثال .
59) في طبيعيات كتاب الشفاء .
60) الاسفار الاربعة ، ج2 ، ص234 – 237 .
61) الاسفار الاربعة ، ج2 ، ص238 – 239 .
62) الاسفار الاربعة ، ج7 ، ص172 .
63) الاسفار الاربعة ، ج7 ، ص179 – 171 .
64) رسالة سه اصل، ص186 .
الفيلسوف الفارسى الكبير//ابو عبدالله الزنجاني